عندما كنت في الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة القانون لفت نظري ذلك التشابه في الوصول إلى الأحكام بين القضاء الأمريكي والمذهب الحنفي.
وقبل أن أبسط القول في هذا التشابه أود أن آتي على طرق علماء أصول الفقه، وهما في الحقيقة طريقان أو منهجان رئيسان، أحدهما طريق المتكلمين وهو طريق المالكية والشافعية والحنابلة، والآخر طريق الفقهاء وهو طريق الأحناف.
عِماد الطريقة الأولى النظر في الأصول والقواعد الكلية من خلال علوم العربية والعقائد والكلام والمنطق وصولاً إلى القواعد الأصولية التي قرروها نتيجة لذلك في كتبهم ودروسهم. في حين أن عِماد طريقة الفقهاء الأحناف النظر في جزئيات وفروع الفقه الحنفي ليصلوا من خلالها إلى قواعد أصول الفقه الحنفي. فهم يتتبعون أحكام المسائل الفقهية المبثوثة في مذهبهم وكتبهم ويبنون منها أو يستخرجون منها الأحكام الكلية لأصول الفقه الحنفي.
وأعود إلى ما لاح لي من تشابه في الوصول إلى الأحكام بين القضاء الأمريكي والمذهب الحنفي، مع تأكيدي الشديد على أن الفقه الأمريكي أو التشريع الأمريكي ليس لديه علم أو موضوع يوازي أصول الفقه الإسلامي الذي يبحث في المنقول والمعقول.
ومصدر التشابه هنا هو أن قضاة المحاكم الأمريكية يصدرون أحكامهم من خلال النظر في القضايا الأمريكية السابقة وهو مايعرف بـ (السوابق القضائية) (Precedents) الصادرة من المحكمة ذاتها أو المحاكم الأخرى. فينظر القاضي الأمريكي في الواقعة التي أمامه ويسمع حجج كل من الخصمين ويختار من السوابق القضائية مايشبه ظروف وحيثيات القضية المنظورة أمامه ثم يصدر حكمه الذي يعد قانوناً أمريكياً في نهاية الأمر حاكماً للقضايا اللاحقة المشابهة كما هو معروف في القانون المشترك أو الانجلوسكسوني. كذلك الخصوم في قضيتهم المنظورة أمام القاضي يستشهدون بما حكمت به هذه المحكمة أو غيرها من المحاكم الأمريكية سواء محاكم الولاية أو الفدرالية لدعم حججهم، وعند نهاية الترافع يصدر القاضي حكمه، ويصبح هذا الحكم كما أشرت آنفا مع الأحكام السابقة المشابهة في الحيثيات والأسباب مبدءاً قانونياً وقضائياً يتبعه كل من القضاة والمحامين والمستشارين والمشرعين والأساتذة في الجامعات والطلاب في دراستهم وأبحاثهم.
وبالتأمل في طريقة الفقهاء الأحناف وطريقة القضاة الأمريكان نجد أن الأحناف يصلون إلى حكم كلي من أحكام أصول الفقه يقرر في كتبهم ويتخذ مرجعاً للأتباع عند الاجتهاد الذي يقوم به القضاة أو المفتون، كذلك في الجانب الآخر نجد أن القضاة الأمريكان يصلون من خلال الأحكام التي يصدرونها إلى قوانين ومبادئ ملزمة يسير عليها القضاة والمحامون ومن له صلة بالقانون.
إن المنتج الأخير للفقهاء الأحناف والقضاة الأمريكان وإن اختلف في حقيقته وطبيعته إلا أنه متشابه في غايته، فغايته لدى المذهب الحنفي أن يكون مبدءأً وأصلاً يسير عليه المفتون والقضاة والمشرعون والمعلمون عند القيام بمهماتهم، وغايته لدى المحاكم الأمريكية أن يكون قانوناً للقضية الآنية محل النظر والقضايا اللاحقة المشابهة لها، وهو أيضاً متفق في الآلية والطريقة وهي البحث في الفروع سواء الأحكام المقررة في فروع الفقه الحنفي، أو الأحكام الصادرة من المحاكم الأمريكية في القضايا.
** **
- سامي الزهراني