عندما وقف تحت قبة الأكاديمية الفرنسية (مجمع الخالدين)، في حفلة استقباله عضواً فيها، قال له زميله الخطيب جان كريستوف روفان: «أنت الذي تعشق الأسلاف، ها أنت ترث ثمانية عشر منهم».
ولقد كان الأمر كذلك فأمين معلوف المشرقي، وإلى حدٍ ما العربي، قد تسنم المقعد التاسع والعشرين بعد ثمانية عشر خالداً كان آخرهم كلود ليفي شتراوس الإنثروبولوجي الشهير. ولم يكن أمين معلوف معنياً، فقط، باستقصاء حياة أسلاف عائلته كما فعل في كتابه (بدايات)، ولا باستقصاء تاريخ أسلافه في عضوية الأكاديمية الفرنسية فحسب، الذين خصص لهم كتاباً منفرداً بعنوان (مقعد على ضفاف السين) حكى فيه حياة ثمانية عشر عَلماً على مدى أربعة قرون من تاريخ فرنسا. وإنما كان ديدنه الحفر في التاريخ والإبحار في خضم الحضارات المتقاطعة والمتناسلة في كل ما كتب ويكتب . هكذا كان في سردياته الروائية المتشعبة، وهكذا كان أيضاً في كتاباته الفكرية.
هاجر معلوف من لبنان إبان احتدام الحرب الأهلية الطويلة، ذلك البلد الذي كان ولا يزال بوتقةً للطوائف والأديان والمذاهب ومسرحاً لتيارات السياسة العربية والإقليمية المتناقضة والمتطاحنة على مدى نصف قرن. هاجر شاباً ناضجاً بعد أن تعلّم وعمل في الصحافة لعدة سنوات، ومع ذلك فإنه لن يكتب كتاباً واحداً بما يُفترض أنها لغته العربية الأم وإنما صاغ جميع إصداراته بلغة فرنسية متمكنة، جعلته يتفوّق في هذه اللغة حتى على بعض المبرزين من أبنائها.
لا بد أن نستوعب أولاً مكمن ولع معلوف بتقاطعات الحضارات والثقافات والأمم والأزمنة في أجواء رواياته، وغرامه العجيب، على الأخص، بهذا التلاقي الصاخب والدموي والمستهدف أحياناً، والهادئ والسلمي والعفوي أحياناً أخرى، بين الشرق والغرب، حتى أصبح لعبته الأثيرة.
فإضافة للإشكالية الطائفية والثقافية في لبنان فإن ذات الإشكالية تكرّرت في محيطه العائلي رغم الأصل الماروني المشترك ورغم الأصل العربي المتأرجح. فقد تنازعت أسرتا أمه وأبيه الانتماءات الفرعية ما بين الكاثوليكية والبروتستانية وما بين الثقافة الفرنسية والإنجليزية، فالبعض في الجامعة الأمريكية والبعض الآخر في اليسوعية وما بينهما حركة صاخبة من التنقّل والارتحال.
من هنا جاء الشغف المستديم في استقصاء أحداث وأزمنة التقاطعات الحضارية والثقافية مروراً بانتصارات وهزائم الأمم والأدوار المتبادلة لأعراقٍ بشرية عديدة على مسرحٍ جغرافيٍ مديد يبدو أكثر انزلاقاً وقابلية للطيّ مما يعتقده الكثيرون من عشاق الأمكنة والطلول.
لذا فإن البحث في هوية معلوف وانتمائه أشبه بقبض الريح، ها هو يقول:»متى تعلق الأمر بأهلي، فأنا أنتمي إلى عشيرة ترتحل منذ الأزل في صحراء بحجم الكون.كل ما يصل بيننا وراء الأجيال ووراء البحار ووراء بابل اللغات رنين اسم». وعلى الصعيد الثقافي فإنه يضيف:»ما شعرت في حياتي قط بانتماء ديني حقيقي، أو ربما بانتماءات،لا يتصالح أحدها مع الآخر، ولم أحس يوماً بانتساب كامل إلى أمة من الأمم».
كان أول كتاب أصدره معلوف بعد هجرته إلى فرنسا بسبع سنوات هو (الحروب الصليبية كما رآها العرب) عام 1983، ويحكي قصة الغزو الإفرنجي الصليبي إلى ما يُفترض أنها أرضٌ عربية بسيادة عربية. لكن الحكاية تكشف أن المواجهة كانت مع أمم مستجدة على الأرض العربية استولت علي القرار العربي واعتنقت الإسلام حديثاً وقضت سياسياً على مركز الخلافة العباسية، بعد أن أفرغه البويهيون الفرس من معناه العربي، وبات القادة والجيوش غالباً إما سلاجقةً أو أكراداً أو مماليك لا ينتمون إلى أمة محددة.ومع ذلك،ورغم تطلعاتهم الخاصة إلى السيادة، فقد حازوا فضيلة تحرير الأرض وحماية الدين وصد أكبر هجوم عقائدي أجنبي تعرضت له الأرض العربية الإسلامية، مثلما تم لهم وقف تمدد أكبر هجوم وثني ممثلاً بالغزو المغولي الهمجيّ.
لم يكن معلوف، في هذا الكتاب، يتقافز فقط بين صفحات التاريخ العربي والوثائق الإفرنجية والعربية القديمة، وإنما كان يتقافز بنا بين حواضر الشام والعراق ومصر وبيزنطة والغرب البعيد.كان ينصب مسرحاً متنقلاً لكل حدثٍ وواقعة ويقوم بتبديل الممثلين والديكور والأزياء بحركات سريعة، ولا يفوته أن يلتقط بعض المشاهد الكوميدية اللافتة في هذه المسرحيات الدموية الصاخبة، وذلك حين تتحالف أطراف إسلامية وإفرنجية ضد حلف إفرنجيٍ إسلامي في حربٍ مقدسة يُفترض أنها بين أتباع الصليب وأتباع الهلال.
وإذا تغافل المرء عن أنهار الدماء من الطرفين وحكايات الدمار والخراب الذي لحق بحواضر المشرق ومعالمه، فإنه سيلحظ حالة من التعايش والتلاقح الحضاري بين حواضر احتلها الغزاة وبقية الفضاء العربي الإسلامي. أبرز معلوف واقع التبادل التجاري المتزايد، بل وازدهار البيوتات التجارية العربية في أحضان الحكومات الصليبية، مما قاد إلى حالة من التمازج الاجتماعي والحضاري على حساب الخلافات السياسية والدينية.
وعندما جاءت ساعة الحسم العسكري، في نهاية المطاف، بدا وكأن الغرب الصليبي قد اكتفى من الشرق أو أنه قبض على سر هذا الشرق وتشرّب روح حضارته وأمسك بمفاتيح ازدهاره الذابل والمتواري وعرف مكامن ضعفه وقوته ليدّخر كل ذلك إلى جولة أخرى، ستكون أقوى وأعمق، وستأتي بعد قرون. لذلك فإن الحاميات الصليبية غادرت حواضر المشرق واحدة تلو الأخرى في فترة وجيزة بعضها قسراً وبعضها الآخر طوعاً بلا مقاومة وكأنما جاءت في رحلة استكشاف طويلة وآن أوان عودتها.
ولنا أن نستذكر هنا ما كتبه الراحل إدوارد سعيد في كتابه الأعمق والأشهر «الاستشراق»، حيث قال: «إن الثقافة الغربية اكتسبت المزيد من القوة والهوية بوضع نفسها موضع التضاد مع الشرق باعتباره ذاتاً بديلة»
وهل كان ذلك ليكون لولا تلك النزهة الصليبية العاصفة علي شواطئ المشرق وفي عقر حواضره!
ولقد كانت حكاية معلوف عن الحروب الصليبية بمثابة إعداد المسرح وجلاء المعالم لسلسلة رواياته التي سيجوس أبطالها أرض المشرق بامتداده العريض، حسب المفهوم الغربي، من هضبة الأناضول حتى شواطئ المغرب الأقصى.
** **
- عبدالرحمن الصالح