في وضع الاستعداد لإصابة النسيج بالإبرة يسكن تمثال الملكة (إليزابيث) ملكة رومانيا – المعروفة أدبيًّا باللقب (كارمن سيلفا) – في حديقة قصر بيليش (Castelul Pele) بريف سينايا (Sinaia) الساحر. من بين عشرات الأوضاع ينحت المثــَّال صورة الملكة وهي منشغلة بنسيج تعالجه؛ فتستقبل الملكة المثقفة، والكاتبة زائري قصرها وهي تمدُّ قدميها فوق مسند، وترخي نسيجًا لـمَّا تنته منه منذ عشرات السنين! في وضع الحركة الصامتة هذا يبدو ما بين يديها كما لو أنـَّه عملٌ غير منتهٍ، عملٌ سيستغرق زمن الوجود كلَّه، إنـَّه الزمن الذي يمتدُّ فيه الفن الخالد: (الحياة بكاملها)، وعليك أيُّها الزائر وأنت تتفحَّص التفاصيل الكثيفة للقلعة أن تتوقـَّف لتتأمَّل الملكة وهي تفعل الشيء الذي تفعله النساء في كلِّ مكان، تعالج نسيجًا ما: مفرش طاولة، رداءً، أو ربما لحافًا لطفل، هذا الأخير الذي ترجِّحه المرشدة السياحيَّة وهي تحكي بألم عن فقد الملكة المفجع لطفلتها الوحيدة، وهكذا ينسدل ما يمكن أن يكون لحاف سرير بارد: تهويدة خيطيَّة لروح الطفلة الغائبة.
قرأت عن الملكة ما كان متاحًا لي، لكنَّ قراءة التمثال – الحقيقة في شكلها الفنـِّي – تعيد إنتاج كلِّ ما كان مقولاً، ومؤرَّخًا، ثم إنَّ هناك أمر الشعور بثبات الفنِّ، وحركته في الوقت نفسه، ومحاولات القبض على روح الفنَّان التي كانت تطوف حول العمل وهو يبدأ وجوده الأبدي، وارتحاله غير النهائي في الزمن.
هل يمكننا أن نتصوَّر تلك الحيرة التي تنتاب المثــَّال قبل أن يختار الحركة التي سيجمِّدها إلى الأبد.؟
إنـَّنا نرى التمثال فقط، لكنَّ الفنَّان كان يرى أشياء كثيرة، أشياء تكمن خارج اللحظة المصوَّرة، وسنصبح محظوظين جدًّا حين نفهم الأشياء الكثيرة التي كان يقولها الفنَّان فيما الأزاميل تشنُّ طعناتها على جسد الحجارة، الأشياء التي كان يوصلها عقله إلى يديه وهو يطوِّع الحديد، والبرونز لكي يصنع فكرته.
إنَّ حدسنا هو نقطة لقائنا الأولى بالعمل الفنِّي، تنحدر بعد ذلك أفكارنا التي تنبئ عن شكل فهمنا لكلِّ ما خالج الفنَّان من تصوُّرات وهو منهمك في تشكيل فنـِّه. هل يمكن لقارئ لوحات أن يشاهد لوحةً عملاقة مثل لوحة (تتويج نابليون) – مثلاً – دون أن يذهب بعيدًا فيما قبل اللوحة، وما بعدها، نابليون وهو محاطٌ بجمعٍ محتفل، التأنـُّق الإمبراطوري في أبهى حالاته، والرسائل السياسيَّة الخفيَّة التي تبعثها يد الفنَّان من خلال اللون، وترتيب العناصر؟ هذه هي مشكلة العمل الفنِّي، وهذا هو جماله أيضًا، الجزء غير الظاهر من الفنِّ هو جوهر كلِّ إحالاته المحسوسة، والظاهرة، الجزء العميق، والبعيد الموحى به عبر المادة، هو فنُّ إثارة الأسئلة، مهارة استنبات القلق، والبحث عن الفكرة غير المصرَّح بها؛ إنَّ كلَّ فنٍّ يصبح الإنسان بعده متسائلاً أكثر هو فنٌّ بشكلٍ أكبر.
إن الفنَّ (الحقيقي) يفاجئنا، وعلينا أن نفاجئه بسماعنا لما هو أبعد من صوت صورته المحسوسة، ذلك ما يمنحه شهادة خلوده: أن تُخلق فينا ومضة الدهشة المعمِّرة، ينبوع الخلود، والشباب المتجدِّد للإيحاء، الاسترسال في عملية ولادة غير منتهية للمعنى، ههنا مكمن (الدهشة): أن ننتبه من ألفتنا لظاهر الأشياء، أن يساورنا قلقٌ مُرضٍ حيال استحالة العاديَّة في مكوِّنات الوجود، أنَّ يدلَّ الشيء – في لحظة خاصَّة – على غير نفسه؛ لأنها الوسيلة غير المتناهية لاستمرار الشعور.
كلُّ عمل فنِّي – في نهاية الأمر – لمحة، خزعة منتقاة من جسم الزمن، وعليها أن تكون هي – وحدها – زمنًا كاملاً، وفضفاضًا، وممتلئـًا، يحدث هذا حين تسترسل العقول في الاكتشاف: الأسئلة مرَّة أخرى: الطريقة التي اخترعها العالم للاحتفاظ بحياته (حيَّة).
مررت – قبل أن أشاهد تمثال الملكة الذي يجلس بوداعة في الحديقة – بأكشاك صغيرة لبائعات محليَّات خارج بوابة القصر، البائعات ينثرن بضاعتهنَّ، ويرقبن حركة الزائرين الذين يقدمون من شرق العالم، وغربه، ينادين كلَّ عابر بلغتهنَّ المحليَّة لكنَّ نغمة (الدلالة) تلك لا تحتاج إلى مترجم؛ إنـَّها إغواء أليف، لا يخطئ السمع – على الإطلاق – نغمته المحرِّضة.
تطغى مفارش الطاولات على بضائع الأكشاك، مفارش مدوَّرة، وأخرى مربَّعة، كان المفرش المربَّع الذي حملته معي حليبي اللون، في مركزه وردة زرقاء نافرة، وتتمدَّد الخيوط برهافة حسٍّ من أطراف بتلات الوردة حتى حدود المفرش، يذهب عقلي إلى صورة البائعة وهي تخرج من مخبأ ما كرات الخيوط الملوَّنة، وأدوات الحوك، في لحظة البدء تلك حيث لم يتكوَّن شيءٌ بعد، ولن يتكوَّن شيءٌ شبيه بعد ذلك أبدًا، صنع اليد هو الذي يملأ جعبتنا بالثقة في أنَّ الذي نراه هو عمل مضمون الفرادة، بكلِّ النتوءات، والانحناءات، بالرقة التي تبعثها الأصابع في روح النسيج، رقة تعجز عنها الآلة، الآلة التي ترتكب مجزرة التطابقات التي تودي بالفنِّ، نسخٌ تكوُّم (المثال) إلى حدٍّ يفقده مثاليَّته، أمَّا العمل اليدوي فهو يغدو – بفضل بصمته الخاصَّة – صورة أوليَّة للشيء مهما كان القدر الذي يتكرَّر به ذلك الشيء. وفي كلِّ مرَّة أنظر فيها إلى المفرش تتجدَّد الأسئلة: كم ساعة قضتها سيِّدة من الريف وهي تحوك مفرشًا صغيرًا كي يضع شخصٌ ما قهوته عليه؟ تحت أيِّ شمسٍ نمت حقول القطن التي صارت خيوطًا تكسو جسد العالم؟ إنـَّه القَدَر الذي يمنح صخرة بعينها فضيلة اعتلاء منصات الفرجة في المتاحف، وينتهي بجذع جاء من غابة بعيدة ليكون العمود الذي يتدلَّى منه حبل المشنقة.
إنَّ كلَّ ما في الوجود معجزة، وحين تمسُّه يد الفنِّ تحدث معجزة أخرى: معجزة تزاوج الوجود الخاص، والتباسه بوجود الذين يختارونه، ويكسبونه معناهم: قاسيًا، موجعًا، لطيفًا، أو باعثـًا على الحبور. يمكن للأشياء أن تمنح الإنسانيَّة صنفًا غير معتنى به من العلاقات: سلسلة انتقال الأشياء، وملامستها: حين تنهمر الخيوط بين يدي الحائكة، وتنهمر أيدينا تقليبًا وفحصًا قبل اختيار قطعتنا المناسبة، حين يصبح وجود شيء ما مرهونـًا بلحظة انتقاء، وتغدو نهاية وجوده طريقة غير متوقَّعة للفناء، وفيما يخصُّ المفارش فإنَّ نشوز خيطٍ واحد يذهب بجهد ساعات من العمل. وحين يموت هذا العمل يموت شيء فريد لا شبيه له، تموت وحدانيَّته التي يعرفها صانعه. هل تفكرون مثلي في آلاف الآثار المطمورة داخل الأرض؟ منحوتات، وأدوات، وحلي تحمل بصمة زمن ولَّى، في انهيار عملٍ فنـِّي، أو ضياعه انهيار لقطعة من الزمن لا يمكن – حينئذٍ – استرداد الزمن، ولا الفرادة التي تمخضت عن لحظة التقاء شيءٍ بحدس فنـَّان، إنَّ ما يجعل المتاحف قيِّمة ليس كثافة الأشياء الثمينة، بل كثافة الأزمنة الحاضرة في مكان واحد، كلُّ تلك الأشياء ليست مجرَّد أشياء قد مضى عليها زمن، إنـَّها أفكار تجسَّدت في لحظة من الزمن، لحظة لن تتكرَّر؛ وحدها روح الفنِّ تجدِّدها، تمامًا كما هو تمثال الملكة يجلس هادئـًا بينما يصل تاريخًا من الأفكار من لحظة النشوء، وحتى لحظات القراءة، والتأمُّل التي لا تنتهي.
إنَّ الشعور المتحسِّر بانهيار الزمن؛ (لحظة انهيار الأشياء التي امتدت فيه) ينتابني أيضًا كلَّما أفسدتُ – بقصد التنظيف – شبكة عنكبوت متقنة، حين انتقلت إلى شقَّتنا الجديدة في بوخاريست كانت زوايا النوافذ مغطاة بشباك العناكب، يمكن ملاحظة جثث الحشرات المقتولة مكفَّنة بالخيوط، وقعت على مشهدٍ حيٍّ لانبعاث الخيوط خلف نافذتي، كانت أرجل العنكبوت فيه رقيقة بحيث يمكن ألاَّ تُرى، ومع ذلك فقد كانت تقلِّب الحشرة – ذبابة على الأغلب – بمهارة فائقة حتى غطَّت الخيوط جسدها بشكلٍ كامل، كانت حشرة العنكبوت تتدلَّى من الزاوية العليا لنافذتي، تقوم بمهمة الصيد تلك وهي مطمئنَّة إلى قوَّة الخيوط، جهدٌ كبير، وماهر تبذله تلك الحشرة من أجل العيش، وعلى الرغم مما يبثــُّه المشهد من صور قسوة القلب، لكنـَّه ينبئ عن سحر تلك الضآلة القاتلة؛ سحرٌ يتمُّ بمباركة كاملة من الخيوط، وقوَّة النسيج.
في النسيج – دومًا – نوع من الحياة: تمثال الملكة (كارمن سيلفا) وهي تغازل النسيج لتمضي في حياتها، السيِّدات الريفيَّات اللواتي ينسجن ليقمن أود الحياة، فطرة القتل المطرَّز بالشباك عند العنكبوت، وثمَّة فكرة (شعبيَّة) تؤكِّد قدرة شبكة العنكبوت على علاج جروح الجسد: نسيجٌ يداوي نسيجًا آخر.
هناك شكلٌ من أشكال المقاومة ينبثُّ في الرقَّة، واللطافة أكثر ممَّا ينبثُّ في الصلابة، والقسوة، هذه الفكرة التي توصَّلت إليها (بينيلوبي) وهي تحرس نفسها بإمضاء الوقت في نسيجها، كانت (بينيلوبي) حليلة (أوديسيوس) تقاوم فكرة الزواج بعده، وهو الذي لم يُعرف مصيره بعد حرب (طروادة)، وحين تقرِّر (بينيلوبي) أنـَّها لا يمكن أن تكون لرجلٍ غيره، وتصبح – دون قطعة سلاح واحدة – قادرة على أن تحمي حبَّها بالوقت الطويل الذي تكدِّسه في النسيج، تنسج صباحًا، ثمَّ تحلُّ نسيجها ليلاً، حيوات تقوم وتنهار من أجل حياة واحدة منتظرة.
ولا يمكن أن تمرَّ فكرة الحوك المنقذ، أو النسيج الشفاء دون أن يخطر ببالنا عنكبوت الغار، هذه الرقَّة الجسورة التي تغدو جزءًا من الموكب المسخَّر لحراسة النبوَّة.
تربط الميثولوجيا العناكب بالبراعة في النسيج، وتقول الأسطورة القديمة: إنَّ (أراخني) التي كانت تتمتع بمهارة نادرة في النسيج، وتصنع قطعًا بالغة الجمال أثارت حفيظة الآلهة (أثينا) فحوَّلتها إلى عنكبوت، هكذا اتصلت المهارة النسيجية بين الأنثى، والعنكبوت، وبقيت هذه المحبَّة الغامضة التي تكنـُّها النساء للنسيج، والحوك، لفكرة الضمِّ، والتكوين، والامتداد، إنـَّها تجسُّداتٌ أموميَّة في مادَّة العالم، رقَّة متوهِّجة بقوة فكرتها.
ثمة شيء ساحرٌ في صورة امرأة تعكف على نول، أو تمسك أداة نسيج، الفتيات المنحنيات على الأنوال في مصانع السجَّاد حول العالم يبدأن بأصابعهنَّ سجَّادة فريدة، تمامًا كالمثــَّال الذي لا يعرف الحدود التي سيقف عندها في تمثاله، مرة أخرى هذه هي الألفة التي علينا أن ننتبه منها، أن نستيقظ على رنين الفرادة، وإشراقات الاختلاف في الأشياء التي تبثــُّها يدٌ موهوبة، ومحبِّة.
في كلِّ مرَّة أنظر إلى الوردة المحبوكة في مفرشي أقول: إنَّ وردة وحيدة منسوجة/مرسومة ستبقى حيَّة إلى الأبد، إنَّ في الفنِّ روحًا معمِّرة حتى في تلك الأعمال التي تحاكي أقسى مظاهر الفناء، لا يمكن أن يقول أحدٌ: إن وردة دوَّار الشمس في لوحة فان جوخ المشهورة هي وردة ميتة؛ كيف يموت الذي لم يكن حيًّا قط؟.
فيما يتعلَّق بتمثال الملكة ذاك فإنَّ يدي المرأة وهما تعملان مثير للوجدان، إنَّ النساء قد انتهين من مسألة النسج هذه؛ فأصابعهنَّ تتجه اليوم إلى مكان آخر، تتحسَّس لوحات المفاتيح، وتسحب الشاشات: إنها ألفتنا الجديدة، ونسيج الحياة المعقَّد الحديث، لقد أصبحت مسألة إمساك امرأة بإبرة، أو صنَّارة حياكة أمرًا محدود الحدوث، النساء يكتفين بملاطفة النسيج على طاولات الباعة في محلاَّت الأقمشة، الأقمشة متهدِّلة تحت البصر، ومتاحة للتحسُّس، والتقليب، هذا ضربٌ آخر من علاقة الأنثى بالنسيج، تختار القماش، ويتعرَّف جسدها عليه من خلال الأصابع، آلاف القطع من الحرير، والموسلين، والصوف عبرت في رحلات طويلة عبر البحار، أنسجة ولدت من برودة الآلة، وعرفت وحشة المخازن، ووحدة حاويات الشحن، وسمعت ضجيج الموانئ، وصراخ العمَّال، رحلة طويلة يقطعها النسيج قبل أن يلامس يد أنثى، اليد التي تقلِّبه، وتتحسَّسه، في مرحله اختبار ضروريَّة قبل أن يكون مؤهَّلا إلى الدخول في علاقة مع كامل الجسد.
في الفنِّ لا يقف الأمر عند ما يفعله الإنسان بالأشياء، بل يمسُّ بحساسية فريدة ما تقوده تلك الأشياء إليه بعد أن تكون، حين أخرج الإنسان أفكاره في شكل فنٍّ أراد شيئًا أكثر من الإدراك اللحظي العابر للفكرة، أراد انبعاثات غير متناهيَّة لها في الزمن، طمع في فكرة خلوده عبر رسائله المرمَّزة في الأشياء، في فيوضات الاكتشاف المتوقَّعة حين يقف هذا الفنُّ في دائرة الملاحظة، في كلِّ شكل من أشكال الفنِّ (نسيجٌ) خاصٌّ من العلاقات يكمن في ظلالها، وحولها، جوهر الوجود.
** **
- سهام العبودي