د. عبدالحق عزوزي
في كاتالونيا الإسبانية اشتد التوتر بين مدريد وبرشلونة في أخطر أزمة سياسية وسيادية تشهدها إسبانبا، إلى درجة أنّ ملك البلد دخل على الخط لينتقد الاستفتاء والمظاهرات والإضراب العام. رئيس الحكومة المحلية بودجيمونت هدد بالإعلان عن الاستقلال... ولاحتواء الأزمة لم تجد المفوضية الأوروبية من حل إلا القول بأن الأمر يتعلق بشأن داخلي.
خرج إذن مئات آلاف المتظاهرين في الأيام الأخيرة في إضرابات متتالية احتجاجاً على استخدام الشرطة للعنف، لمنع الاستفتاء على استقلال إقليم كاتالونيا الذي جرى بعد توقيفات واستعمال شرطة مدريد للقوة. وهتف المتظاهرون بكلمات من قبيل «فلتخرج قوات الاحتلال» و»الشارع سيكون لنا على الدوام»، ومن تابع تلكم الاحتجاجات يظن نفسه في بلد سلطوي إفريقي ألغيت فيه الانتخابات على التو من قبل الجيش أو حزب الرئيس المخلوع!. وأكد قادة كاتالونيا، التي تبلغ مساحتها 30 ألف كلم مربع ويقطنها 16 بالمئة من سكان إسبانيا، أنهم ينوون جدياً إعلان الاستقلال أبى من أبى وشاء من شاء، بعد التأكد من فوز مؤيدي الاستقلال في الاستفتاء بأكثر من 90 بالمئة من الأصوات وفق نتائج غير نهائية.
ويومياً تتبادل حكومتا إقليم كاتالونيا والحكومة الإسبانية المركزية الاتهامات بالمسؤولية عن العنف في الإقليم، عندما استخدمت الشرطة الإسبانية الهراوات والرصاص المطاطي لمحاولة منع إجراء استفتاء حول استقلال كاتالونيا، مما أوقع أكثر من 90 جريحاً. واعتبر رئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخوي أن الاستفتاء لم يتم، قائلاً إن «دولة القانون» فرضت نفسها. وأضاف راخوي أن قوات الأمن الإسبانية «قامت بواجبها» في كاتالونيا «،واحترمت تفويض القضاء» الذي حظر استفتاء تقرير المصير الذي نظمه القادة الداعون للاستقلال في كاتالونيا. ووصفت رئيسة بلدية برشلونة أدا كولو، وهي من معارضي استقلال كاتالونيا، راخوي بأنه «جبان» وذلك إثر تدخل الشرطة بالقوة في كاتالونيا ودعته إلى التنحي عن السلطة. وقالت في تصريحات صحافية إنّ راخوي «تخطّى كافة الحدود (..) إنه جبان وليس بمستوى رجل دولة (..) وبالتالي ماريانو راخوي يجب أن يستقيل».
أنقل هذا الكلام لنفهم حجم المشكلة في هذا البلد، وعلى ما يمكن أن تصل إليه الأنانية الغربية في أغرب توجه يمكن أن يصل إليه بلد ديمقراطي، وهو رغبة جزء من الساكنة في خلق بلد صغير داخل البلد...
مقاطعة كاتالونيا تأوي من خلال مدينة برشلونة الساحلية الشهيرة واحداً من أكبر الموانئ التجارية في الفضاء المتوسطي، وأربعة مطارات دولية، ومنشآت ضخمة للصناعات الدوائية، كما أنها تحتضن مقرات أكبر الشركات المتعددة الجنسيات في العالم، مثل عملاق صناعة النسيج «إنديجو». أما على المستوى السياسي والإداري، فإنّ كاتالونيا على غرار بقية المقاطعات الذاتية الحكم، مثل أندلوسيا والكناري وجاليسيا، يوجد فيها برلمان وحكومة، وهي تهتم بشكل خاص بالصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية، ولديها جهاز شرطة خاص بها.
ولكن إذا بحثنا بتقصٍّ عن السبب الحقيقي الذي يجعل الكاتالونيين يرغبون في الاستقلال، سنجده اقتصادياً، فالمنطقة تتصرف في نصف عائدات الضرائب، وتتسلم الحكومة الإسبانية المركزية النصف الآخر، وهذا ما لا يستسيغه الانفصاليون: فهم يريدون منح نسبة بسيطة منها إلى الحكومة المركزية في مقابل الخدمات التي تقدمها هاته الأخيرة لها، كما أنها ترفض سياسة مساندة المناطق الغنية للمناطق الفقيرة في إسبانيا.
وأظن أن المشكلة بأكملها هي مشكلة أخلاقية وتربوية، فالبلد فشل في زرع قواعد المواطنة في عقول أبنائها، وعلمتهم النزعة الفردية أو الفردانية كما يسميها السوسيولوجيون حب الأنا والمحيط الضيق على حساب البلد... فلتتصوروا معي لو كانت كاتالونيا فقيرة؟ أيمكن لأحد أن يطالب باللجوء إلى الاستفتاء للمطالبة بالاستقلال عن الدولة المركزية، عن الدولة الأم التي تنظر إلى كل مواطنيها على أنهم أبناء عائلة واحدة؟ لا أظن ذلك. ومن هنا يمكن الإعلان عن فشل الدولة الإسبانية والنظام الإداري المطبق فيه في تثبيت قواعد المواطنة للجميع، ومن هنا أيضاً المرض العضال الذي بدأ يصيب الإنسان الأوروبي، وهو التفكير في نفسه وفي محيطه الضيق، حيث لا تهمه إلا مصلحته ومصلحة هذا المحيط، ولا تهمه البتة مصلحة الجماعة ولا الدولة الأم ولا يمكن أن يقع لأبناء الجهات الأخرى القابعة في غيابات الفقر. إن أول قاعدة يجب أن يتربى عليها النشء منذ نعومة أظافرهم هي مسألة المواطنة ومسألة الولاء إلى الدولة الأم، وبدون ذلك تضيع مصالح الدولة وتعم الفوضى أرجاءها طال الزمان أم قصر.