د. فوزية البكر
لم يكد الأمر السامي الذي صدر باعتماد تطبيق أحكام نظام المرور ولائحته التنفيذية، بما فيها إصدار رخص القيادة، على الذكور والإناث على حد سواء يخرج للعلن يوم الثلاثاء الموافق 27-10-2017 إلا وهلّل العالم كله احتفاء بهذا القرار الذي انتظرته المرأة السعودية طويلا لطي صفحة تاريخ مثقل بالصراعات الأيدلوجية أعاق بلادنا الشابة أن تستثمر قدراتها البشرية وعطّل صورتها المشرقة في أنحاء العالم بلا منطق ديني أو ثقافي واضح.
أجدني اليوم أقف في الجانب الآخر الذي لم أكن أتوقع أن أجد نفسي فيه بهذه السرعة والديناميكية، جانب القبول الاجتماعي والرسمي، جانب الاحتفاء والفرح باستعادة شروط حياتنا إلى (طبيعيتها) التي انتزعت منها لعقود حيث كنا نحن (الآخر المختلف) قد صور على أننا قوى شر غير مرغوبة تهدد البيت الهادئ وتقضّ مضجعه بمطالباتها الإنسانية الطبيعية ومن ثم كان العقاب هو التهميش والمحاربة لإعاقة المخلصين عن أداء أدوارهم الوطنية المفترضة من خلال حرب تصنيفات أيدلوجية عقيمة أعاقت التنمية في كل مناحي الحياة لعقود.
أريد في هذه المقالة القصيرة أن أؤكد نقطتين أظنهما جديرتين بالتأمل:
الأولى: إن الآخر المختلف الآن والذي يقف مندهشا من حمى التغيرات من حوله هو في النهاية ابن وابنة لهذا الوطن الكبير الذي يجب أن يحتضننا جميعا. لا يجب أن يهمش أحد مهما كان الاختلاف فهناك أبناء وأخوة وأخوات لكل من هو مختلف وغاضب اليوم وهؤلاء يمثلون الأجيال السعودية الجديدة التي تعيش ورشة الانتقال الهائل تنمويا وتكنولوجيا التي تجري على قدم وساق في كل جزء من بلادنا.
من عانى من الظلم والتهميش يجب أن يقف ضد محاربة الآخر إذا لم يمثّل خطرا أمنيا أو اجتماعيا تضطر معه الدولة إلى محاسبته لكن تبقى أبواب المصالحة الوطنية هي الأكبر لندخل منها جميعا على اختلافاتنا لبناء هذا الوطن الجميل الذي ينتظره مستقبل مشرق نستحقه جميعا.
الثانية: إن المطالبة بقيادة السيارة وعلى بساطتها و(ميكانيكيتها) على أرض الواقع ومنذ بدأت المطالبة بها في السادس من نوفمبر عام 1990 وحتى الآن بعد إقرارها أحدثت وستحدث تغيراً قيّماً كبيراً يطال رؤية المجتمع للمرأة كإنسان وكمخلوق له مثل ما عليه من واجبات وحقوق. المطالبة بالقيادة لم تكن ركوب سيارة والإمساك بموقد: إنها تعني الحق الإنساني في حرية التنقل ووجود خيار القيادة ذاته فإما أن تستثمره المرأة وإما أن ترفضه لكنه يبقى متاحا لمن ترغب، هي تعني المسؤولية الذاتية في اتخاذ القرار وتحمل النتائج من قبل جيوش النساء القادمة اللاتي ستفتح أمامهن أبوابا كانت مغلقة لمزيد من فرص التعليم والتدريب والتوظيف وتنمية الذات بالطريقة التي ترغبها كل منهن.
قرار القيادة (أنسن) صورة المرأة في المخيال الشعبي وسيساهم في استعادة السلوك الإنساني (الطبيعي) لملايين النساء السعوديات اللاتي تم إرعابهن وخنق أرواحهن وعقولهن تحت فكرة (الخطيئة) التي تم تأكيد حتمية وقوعها إذا أعطيت المرأة خيار التنقل لأنها ستخطئ وهي لذا تحتاج كإنسان (غير عاقل) إلى الضبط المجتمعي بتقييد الحركة والسلوك. قرار القيادة أسقط ذلك رسميا وسيحتاج إلى تغطية ثقافية كبيرة لنفض أسسه الفكرية وغربلتها بما يعيد للمرأة كيانها الإنساني المستلب فتبدأ هي بالنظر إلى ذاتها كشخص عاقل قادر على اتخاذ القرار الصائب (والذي قد لا يراه الكثيرون صائبا) وقتها (ربما نوع تعليم ما مثلا أو نوع وظيفة ما قد لا يرى الآخر مناسبتها (لطبيعة المرأة) لكن المرأة اليوم ستكون هي المسؤولة عنه وهي من سيدفع ثمنه إذا لم يكن مناسبا وهنا ستستعيد المرأة قدرتها على رعاية نفسها باتخاذ قرار مسؤول في كل موقع توجد فيه.
بذلك القرار التاريخي الكبير ستتمكن النساء السعوديات تدريجيا من خلع أردية الوصاية البالية التي فرضتها الصحوة الظالمة حتى وصل الأمر إن لم يعد الجار يثق بجاره ولا الأب يثق بابنته ولا المرأة تثق بنفسها وبدأ الجميع في تتبع الجميع وانشغل الناس عن التنمية بالمراقبة والمحاسبة.
شكرا لملكنا الوفي لوطنه الملك سلمان ولولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان فمن خلالكما وبمن يحيط بكما من قيادات وطنية شابة مخلصة تمكنّا من الخروج من النفق.