د. جاسر الحربش
في مقال طويل عن القرار السامي بحصول المرأة السعودية على حقها الطبيعي في قيادة السيارة، ذكرت إحدى كبريات الصحف الألمانية أن الملك سلمان بن عبدالعزيز حرك من قضايا المرأة الحقوقية في سنتين ما لم يتحرك قبله في عشرين سنة، وذكرت بعض الإنجازات التي أصبحت معروفة للجميع.
يتركز الحديث اليوم عن قيادة المرأة السعودية للسيارة، لأن القرار السامي بت في قضية شغلت المجتمع طويلاً وعطلت بعض المصالح والحقوق، وتساءل العالم عنها كثيرًا لماذا نكون الدولة الوحيدة في العالم التي كانت تحجب ذلك الحق. الفوائد الأخلاقية والمالية كانت واضحة لصالح قيادة المرأة للسيارة منذ بدأ دخول السائقين الأجانب إلى البيوت واطلاعهم على خصوصيات المراهقات والمراهقين وربات المنازل واستفرادهم بالنساء في الليل والنهار.
الآن تضج الأجواء بالأسئلة والأجوبة القديمة والمتكررة، عن كيف ستوفر لنا قيادة المرأة الأموال، وعن الاستغناء عن اطلاع الأجنبي على أسرار البيوت، وعن مساهمة المرأة في التنمية، وعن دور التركيز الإعلامي الخارجي على حقوق المرأة السعودية، بدءًا بمنعها من قيادة السيارة إلى آخره.
نعم كل هذا وذاك عوامل مهمة، لكن السؤال هو كم نعطي لكل واحد فيها من الأهمية مقابل الإدراك الحضاري والحسابات الإحصائية لضرورة الاندماج مع وفي العالم الذي يتطور بسرعة الضوء، بينما نحن منشغلون بقضايا عزلتنا الداخلية لأسباب متوهمة أو مصطنعة رغم ما تسببه لنا من اختراق أخلاقي ومالي وتعطيل تنموي.
لقد مررنا بمراحل لم تكن فيها قيادة السيارة حتى للرجل ضرورية، ثم أصبحت مع الزمن حاجة ماسة، وبالنسبة للمرأة السعودية انتقلت القضية مع خطوات التنمية من خارج التفكير الاجتماعي أصلاً إلى فكرة مؤجلة، ثم إلى ضرورة نسبية، ثم إلى ضرورية جدًا، وأخيرًا وصلت إلى مرحلة غير قابلة للتأجيل.
ورثنا عبر قرون العزلة الطويلة رهابًا اجتماعيًا ومؤسساتيًا سببه الحقيقي التهيب من مجاراة المختلفين عنا في فهمهم للحياة والتعايش والتطور، لدرجة الاحتيال على النصوص الشرعية خدمة لرهابنا من الاندماج في العالم. عندما حدث الانتقال الأكبر قبل ألف وأربعمائة عام من الصحراء إلى مجتمعات الأنهار والبساتين في العراق والشام، هل أخذ أجدادنا معهم عزلاتهم الصحراوية، أم أنهم أخذوا وأعطوا وتقبلوا فقبلوا هناك؟
الدولة الإسلامية العربية الأولى خارج الصحراء أسسها في دمشق ونظمها كاتب وحي وأحد صحابة رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلم يبن مجتمعًا صحراويًا هناك، ولو أراد ذلك لما تحققت الدولة الإسلامية (والله أعلم) ولما غادر الإسلام منابعه الصحراوية وتمكن خارجها، أمير المؤمنين معاوية ومستشاروه الحكماء أدركوا ذلك وتصرفوا بموجبه خدمة للبقاء والانتشار الديني والاجتماعي.
وماذا عن الآن؟.. الآن تحولت الصحراء نفسها إلى مدن ضخمة وطرق وجسور ومدارس ومعاهد وجامعات ومطارات وموانئ وسفارات وقنصليات تمثل كل دول العالم. لم نعد نعيش في تلك الصحراء القديمة بحيث نستطيع اختيار العزلة الطوعية عن العالم، وأهم ما في حياة اليوم التنافس الفكري والاقتصادي وسرعة الحركة وضرورة الوصول إلى المراكز والمرافق الحيوية دون قيود. هكذا وصلنا إلى قناعة التوقف عن تعطيل نصف المواطنين عن المشاركة في حيوية التطور وصراع البقاء إقليميًا ودوليًا وانتهى التحجج بالعادات والتقاليد والمحافظة على الأخلاق. الأخلاق قناعة شرعية وتربوية، ومن في قلبه مرض الانحراف لا يحتاج إلى رخصة قيادة ولا جواز سفر في كل الأماكن والأزمنة.
المهم، تساقطت أوراق العزلة واحدة بعد أخرى، واليوم سقطت الورقة الأكثر التصاقًا بالعقلية الصحراوية. نعم نحن آخر دولة تتخذ هذا القرار، واتضح أن الضغوط والمطالبات لم تكن العامل المرجح، وإنما الإدراك الشرعي والسياسي والإداري أن هذه الورقة التي طال استعمالها لتكريس العزلة يجب أن تسقط من شجرة التنمية.