د. محمد عبدالله العوين
حسم خادم الحرمين الشريفين الجدل الاجتماعي الذي طال عقوداً عديدة وبعد تردد مجلس الشورى وانقسام أعضائه وتخوفه من الإقدام على رفع توصية واضحة صريحة عن قيادة المرأة للسيارة وإحداث قانون ضد التحرش، فبعد انتظار طويل لما يسفر عنه جدل المجتمع وقياس دقيق لنسب تصاعد الوعي الاجتماعي العام وتأثير وسائل التواصل والانفتاح الإعلامي ومتابعة لما تروجه بعض منصات الإعلام الدولية المستقطبة من جهات معادية أو المندفعة بجهل ونقص في المعلومات عن مجتمعنا، وبعد تبين لضرورة تملك المرأة حق قيادة مركبتها لأداء واجباتها العائلية والاجتماعية والعملية مع عدم وجود نص شرعي يمنع ذلك أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - أمره السامي الكريم بالسماح للمرأة بقيادة السيارة، ثم أصدر أمره الموجه إلى وزارة الداخلية بسن مشروع نظام لمكافحة التحرش وتحديد عقوبات رادعة ضد من يرتكب تلك الأفعال المسيئة والرفع إلى المقام السامي خلال ستين يوماً من تاريخه، والمعنى أن هذا النظام سيصدر به أمر سامٍ قبل أن يبدأ النساء بقيادة سياراتهن في المملكة بتاريخ 10 من شوال 1439هـ وذلك للحفاظ على سلامتهن من ضعاف النفوس.
وبقراءة للأمرين الساميين وما يثيرانه في النفوس من بهجة وسرور وثقة عميقة في قيادتنا الرشيدة؛ لما تتمتع به من أناة وحكمة وبعد نظر وأفق واسع وتجربة طويلة ذكية في إدارة الحكم واطلاع واسع على ثقافات الشعوب ومعرفة واعية بتعاليم الدين واستيعاب لقيمه السمحة وامتلاء بالجميل العبق من القيم العربية الأصيلة، وبخاصة منها ما يتصل بالعلاقة بين الرجل والمرأة وما يحكم تعامل أفراد المجتمع العربي بعامة نجد أن قيادتنا السياسية الواعية الحازمة تقدم على اتخاذ القرار الضروري في وقت لم يعد يحتمل التأخر أو الانتظار؛ وبخاصة حين يطول الجدل في المجتمع بتأثير عوامل عديدة؛ بعضها مصطنع مدفوع بعوامل أيدلوجية حزبية ربما من جهات خارجية، وبعضها الآخر ناتج عن مخاوف اجتماعية وهمية غير مبررة، وبعد أن يعجز مجلس الشورى المناط به البت في قضايا كهذه عن الوصول إلى رؤية واضحة واثقة فيقطع ولي الأمر - حفظه الله - التردد والتثاؤب والحيرة والانتظار الطويل الممل وعجز مجلس الشورى عن الخروج بتصور واضح؛ ويسبق كل أولئك بالقفز بالمجتمع إلى ما يجب أن يكون عليه من رقي وتطور ونهوض.
ليس بدعًا سبق القيادة إلى المستقبل؛ فالأمثلة كثيرة جدًا، ولو استسلمت الدولة لمخاوف الوجلين المترددين العاجزين عن استيعاب معطيات العصر والقاصرين عن فهم معاني بناء دولة عصرية قائمة على توازن دقيق بين الثوابت والانفتاح لكن تعيش الآن وفق مفهومات منتصف القرن الهجري الماضي.
إن طموح القيادة لا يتوقف عند بناء مفهوم دولة عصرية حديثة متوازنة؛ بل يتجاوز ذلك إلى بناء «حضارة عربية إسلامية حديثة» منبعثة من هذه الأرض الطيبة المباركة التي تملك كل مقومات وخصائص الحضارة، بما لها من سبق ريادة وقيادة، وما تنهض عليه من تأسيس تاريخي طويل انطلق مع مبعث نور الإسلام وتمدد على يد أبناء هذه الجزيرة إلى كل آفاق الدنيا.
فحينما تتأسس على أرضنا حضارة عربية إسلامية جديدة بخطوات متأنية راسخة واثقة من دورها الريادي على مدى مئات السنين ممثلة في الدولة السعودية بمراحلها الثلاث منذ قيامها عام 1157هـ إلى ما يشاء الله كقدر عظيم شرفنا الله به لخدمة الإسلام والعرب ونشر المحبة والسلام والخير في العالم فإننا لا نتجاوز ولا ندعي ولا نبالغ أو نستكثر بما ليس لنا أو لا نستطيع حمله، فمن هذه الجزيرة صنع التاريخ العربي والإسلامي المجيد وانبثق النور وقاد الآباء الفاتحون زمام دفة الحكم من حدود الصين شرقًا إلى ما بعد جبال البرانس في فرنسا غربًا.
ليس بدعًا سبق الدولة إلى المستقبل حين تعم الحيرة وتنغلق الأبواب؛ فلولا الرؤية النافذة البصيرة لما تعلمت المرأة، ولما افتتح التلفزيون، ولما أصبحت المرأة عضوًا في مجلس الشورى، ولما ابتعث من أبنائنا مائتا ألف طالب،.