عمر إبراهيم الرشيد
تأتي أهمية الخبرة المتراكمة عن طريق الممارسة والعمل كمؤهل يفوق أحياناً المؤهل الأكاديمي. في دول صناعية كبرى كألمانيا وكوريا الجنوبية مثلاً، تحتل المؤهلات المهنية أهمية قصوى، وهي لا تتطلب الحصول على مؤهل جامعي وإنما تأتي بعد التعليم الأساسي، لأن التأهيل الميداني بعد دورات مكثفة هو المعتمد والوسيلة لاكتساب المهارات العملية والخبرة، حتى يدخل الخريج بعدها في الدورة الإنتاجية والاجتماعية الفاعلة. تجربة معهد الإدارة العامة في المملكة تقوم على هذا الأساس، ولذلك تتهافت على خريجي المعهد مؤسسات وشركات القطاع الخاص والقطاع الحكومي وإن كان الأخير أقل وتيرة في السنوات الأخيرة، بالنظر إلى التشبع الوظيفي وغيره من الأسباب. عند التمعن في أزمة خريجي المعاهد الصحية الذين يصل تعدادهم إلى عشرات الآلاف ذكوراً وإناثاً، تبرز هذه المسألة على الفور لعدة اعتبارات، أهمها أن مسألة الخبرة المطلوبة في المتقدّمين مردود عليها تلقائياً، إذ من أين للخريجين الجدد توفير الخبرة طالما لم ينزلوا إلى ميدان العمل وهو مصدرها؟ والحجة الدامغة الأخرى تلك القوافل من العاملين الأجانب وهم بعشرات الآلاف أو مئاتها الذين يتدربون في مستشفيات المملكة الحكومية والخاصة، لدرجة أن الآلاف منهم ذكوراً وإناثاً وبعد العمل لسنوات طوال بالمملكة، يسعون للحصول على فرص عمل في أمريكا وكندا وأوروبا ويجدونها بالفعل، بل وتفضيلاً لهم لأنهم عملوا في المملكة بالنظر إلى تراكم الخبرة بالممارسة وضخامة المستشفيات والعدد الهائل من المرضى، كل هذا وغيره يخلق ملفاً مهنياً غنياً للمتقدّمين منهم للحصول على فرص عمل وإقامة أو جنسية في الدول الغربية. وغير بعيد عن اعتبار القارئ الكريم مسألة الشهادات المزوَّرة التي يزخر بها القطاع الصحي من قبل ممارسين وعاملين أجانب مع شديد الأسف. السؤال القديم الجديد هو: لم لا يتم هذا الأمر، أي التدريب على رأس العمل، مع خريجي المعاهد الصحية، بعد اختبارهم بالطبع وفحص شهاداتهم؟
لقد استحضرت مثال أولئك الخريجين لأنه الأشد حضوراً وتأثيراً اقتصادياً واجتماعياً على المديين القريب والبعيد، وينطبق على القطاع الصحي ما ينطبق على غيره، في الهندسة والإنشاءات، المحاسبة، الإدارة وما يتصل بها، والمهن وغيرها. وسبق أن كتبت هنا عن مبادرة كلية الطب بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض والتي لم يسبق لجامعة سعودية أن عملت بها، وهي إرسال طلبتها صيفاً للتدرب في مستشفيات أمريكية وكندية لاكتساب الخبرة العملية قبل التخرّج وتطبيق ما تعلموه نظرياً، وأحسب أن هذه التجربة ستكسب خريجي هذه الكلية التميز في مجالهم، وإن كان الأطباء والطبيبات السعوديون يشكلون قوة ناعمةً وفخراً لنا بتميزهم ومهنيتهم واحترامهم لرسالتهم الإنسانية كما كتبت من قبل. الاستفادة من فلسفة معهد الإدارة العامة في الإعداد المباشر للعمل، وبالتعاون مع المؤسسة العامة للتدريب المهني والجامعات ووزارات التربية، الخدمة المدنية، العمل والتنمية الاجتماعية وبتكامل الجهود لا ازدواجيتها، سنجني ثمار الدعم الحكومي لمختلف القطاعات كما تقوم عليها أهداف التحول الوطني، طابت أوقاتكم.