عبدالعزيز السماري
لازال مصطلح الاستبداد الأكثر تداولاً في عناوين الإطروحات الثقافية العربية المعاصرة، لعل أشهرها كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد للكواكبي، والذي صدرت نسخته الأولى منذ أكثر من قرن في حلب، وبمختصر القول كان يرى أن الله عز وجل خلق الإنسان حرّا، ويرى أن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور.
المستبد في تلك العبارة ليس بالضرورة السياسي، ولكن أيضاً الفرد في أسرته ومجتمعه الصغير قد يكون مستبداً، لذلك يظل الاستبداد الاجتماعي أم ظواهر الاستبداد على اختلافها، وتبدو مظاهره عندما يطلق أحدهم شعاره باسم الجميع، ثم يطالبهم بالعمل من أجل فرضه..
كانت تلك الصورة في منتهى الوضوح بعد قرار السماح لقيادة المرأة للسيارة، وهو قرار غير إلزامي، ويبقى مثل كثير من الخيارات في المجتمع، ويعود خيار القيادة للفرد، لكنه من الاستبداد الاجتماعي عندما تفرض الفئة المعارضة للقرار رأيها على الجميع، أو يتحدث أحدهم بالنيابة عن المجتمع على طريقة الشعب يرفض قيادة المرأة للسيارة.
الاستبداد الاجتماعي نتاج لظاهرة قديمة في المجتمعات المغلقة، ويعبر عن وجود عقل أحادي ووصي كان يقوم بمختلف القرارات الاجتماعية، ثم يفرض رأيه إما بالترهيب أو التكفير، وهو ما أدى في نهاية الأمر إلى خروج ظاهرة الاستبداد والعنف في المجتمعات العربية، والسبب هو تخلف مفاهيم الحرية والتعددية والمسؤولية الفردية أمام القانون .
لم يأت الاستبداد الاجتماعي من فراغ أو من مجرد جمود بيئي مغلق، لكنه يعتبر استمراراً لنسق الفكر الذي أسقط حضارة العرب في قرون خلت، وذلك عندما طرد العقل المستبد فكرة العقول المتعددة وحارب نهج الاختلاف المحمود، ثم فرض رؤية واحدة لتفسير الدين الحنيف والظواهر الطبيعية والتاريخ، فكان المنتج عقلا جامدا وظلاميا ومحرّضا على العنف.
كان هذا العقل الوصي دوماً ما يكرس ظاهرة أن المجتمع بمختلف فعالياته هم العوام الهوام الطوام يجلسون على الطرقات يسألون الأخبار والأمطار . يتبعون كل ناعق إن أقبلت الدنيا عليك طلبوك، وإن أدبرت جفوك ومقتوك، فلا تثق بمدحهم أبدا .. فهم الدهماء والغوغاء البلداء الأغبياء السفهاء ينقلبون مع الدنيا عليك ..
وبرغم من تقدم التعليم وتطور العقول وتجاوزها دوائر الانغلاق إلا أن هذه النظرة الدونية والاحتقارية للمجتمع لازال البعض يروج لها، ولا يزال البعض أيضاً يركض خلفهم بلا وعي كلما أطلقوا رأياً إقصائيا أحادياً ضد حرية الاختيار المسؤولة في المجتمع ، وهو ما يعني أن تحديات التنمية والتعليم والوعي لايزال أمامها كثير من العوائق، وأن سبيل الخروج من تلك التركة يحتاج استثماراً أكثر في مشاريع التعليم والتنمية والعمل ..
في نهاية الأمر لابد من الخروج من دكتاتورية العقل الواحد، وصفة الحديث بالنيابة عن الجميع، وأن نتعلم أن الحرية مسؤولية، وأن كل فرد له حق الاختيار ضمن حدود النظام والمباح، وكذلك أن نعي أن ثقافة الوصاية الاجتماعية إياً كانت سلوكاً شاذاً علينا نبذه، فالمجتمع من طبيعته التعدد، وللفئات المحافظة أن تختار ما يناسب قناعاتها، لكن عليها ألا تفرض ذلك الخيار على الجميع..