د.عبد الرحمن الحبيب
الاتفاق النووي الدولي مع إيران يرفع العقوبات تدريجياُ عليها إذا امتثلت له، والحكومة الإيرانية تزعم أنها تطبقه، وتوافقها الدول الأوربية والوكالة الدولية للطاقة الذرية، مما يعني رفع العقوبات بحلول عام 2024.. إنما أمريكا لها رأي آخر، فقيمة الاتفاق بالأساس أتت بالموافقة الأمريكية آنذاك..
أما الآن، فالموقف الأمريكي مختلف ويمكنه تغيير المعادلة برمّتها، وأكثر ما تخشاه إيران هو فقدها للمنافع الاقتصادية من الاتفاق النووي، فاستخدام أمريكا لورقة العقوبات الاقتصادية يبدو حالياً من أقوى أوراق الضغط على إيران التي تعاني من أزمات اقتصادية حادة واستنزاف مواردها المالية لمتطلبات نشاطها العسكري وتمويل مليشيات وكلائها في المنطقة، خاصة أنها تواجه حالياً جبهة استنزاف جديدة محتملة بعد استفتاء استقلال كردستان العراق.
لذا، فإنّ إيران تؤكد امتثالها للاتفاق النووي، لكن هذا الامتثال ينبغي التصديق عليه كل ثلاثة أشهر حسب الاتفاقية. وإذا كانت الدول الأوربية صادقت عليه مؤخراً، فإنّ الرئيس الأمريكي قال إنه لا يريد المصادقة عليه مجدداً، رغم أنه قد يرضخ لدواعٍ دبلوماسية مع حلفائه الأوربيين. حتى لو تمت المصادقة الأمريكية عليه هذا الشهر (أكتوبر)، فالإدارة الأمريكية تلوّح بالانسحاب من الاتفاق النووي، لأنها تراه سيئاً لا ينهي التخصيب ولا تجميع المواد الانشطارية التي تكفي لإنتاج قنبلة نووية (نيكي هالي، معهد المؤسسة الأمريكية).. فضلاُ عن أن إيران مستمرة بتجاربها على صواريخ باليستية يمكنها نظرياً تطوير حمولة نووية تُشير الدلائل إلى أنها بمساعدة كوريا الشمالية (فرزين نديمي، معهد واشنطن).
لكن المسألة الأهم - من وجهة نظر الإدارة الأمريكية الحالية - أنّ الاتفاق انحصر بمسائل فنية للتسليح النووي وأسلحة الدمار الشامل، متجاهلاً عدوانية إيران وتوسعها الإقليمي المهدد لاستقرار المنطقة. وهذا ما أثارته بعض الدول بالشرق الأوسط بعد توقيع الاتفاقية النووية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية التي تحققت تحذيراتها من توسع إيران العدواني بالمنطقة..
لماذا وقعت إدارة أوباما السابقة على الاتفاقية وتجاهلت أعمال إيران العدوانية بالمنطقة؟ يقول المسؤولون السابقون بالإدارة الأمريكية إنّ ذلك يرجع استراتيجياً لهدف وقف برنامج التسلح النووي الإيراني، أما السلوك العدواني لإيران فيمكن التعامل معه واحتواؤه في سياقات أخرى. لكن الذي حدث هو العكس، وحصل ما حذّرت منه السعودية بتوسع النفوذ الإيراني نتيجة، جزئياً، لهذه السياسة الدولية المتخاذلة تجاه إيران..
الآن، أصبحت إيران تشكل تهديداً لاستقرار المنطقة ولأمريكا أكثر مما كان قبل الاتفاق النووي، حسب رأي جيمس جيفري (السفير الأمريكي السابق لدى تركيا والعراق)، الذي يرى أن انحصار الاتفاق بالتسليح النووي لإيران وتجاهله سلوكها العدواني، ومن ثم رفع العقوبات الاقتصادية عنها، سهَّل لها شراء الأسلحة بكميات هائلة من روسيا، ودعم سياسة الأرض المحروقة لبشار الأسد، وشجعت روسيا بمزيد من التدخل، وحرّضت على بروز تنظيم «داعش» من خلال السماح لإيران وعملائها في العراق وسوريا بقمع العرب السنّة لحد احتضانهم للتنظيم الجهادي.
استخدام الاتفاق النووي كورقة ضغط على إيران ثبت أنه بلا معنى في ردع سلوكها العدواني، لأنها لم تنتهكه بشكل مكشوف، لكنها راوغت في تطبيقه، كما قالت مراراً الإدارة الأمريكية بأنّ إيران تنتهك روح الاتفاق، فضلاً عن زيادة سلوكها العدواني. فهل الأوربيون أغبياء حين لم ينتبهوا لهذا السلوك المراوغ؟ كلا، إنما الدول الأوربية على عجلة من أمرها لعقد صفقات تجارية تحتاجها اقتصادياتها المترنحة، وهمهم الاستراتيجي تجاه إيران يتمثل بوقف تسلحها النووي؛ وهاجسهم الأمني هو بوقف العمليات الإرهابية من داعش، وصد تدفقات اللاجئين. هذا أضعف قدرة الحكومة الأمريكية على إقناع حلفائها الأوربيين باستمرار العقوبات على إيران.
إذن، ما الذي يمكن أن تفعله الإدارة الأمريكية؟ يمكنها اختيار طريق آخر لمواجهة المشروع الإيراني بالمنطقة بعد نهاية الحرب على داعش التي أصبحت وشيكة، فهذه الحرب أجّلت المواجهة مع إيران نتيجة تقاطع المصالح مؤقتاً، لأنّ القضاء على داعش شكّل أولوية للإدارة الأمريكية. هذه الطريقة لم تتضح بعد.. لكن مستشارو الإدارة الأمريكية يطرحون إمكانية مواجهة إيران ووكلائها بالمنطقة عبر القوة الأمريكية المباشرة أو شركائها بالمنطقة.. أو بأقل الاحتمالات بتأكيد مقاطعة التعامل التجاري مع إيران، وحث الشركات العالمية بعدم التعامل معها، أو تُعرّض هذه الشركات أعمالها مع أمريكا للخطر. كما ستنبه أمريكا حلفاءها الأوروبيين لمحاذيرهم الاستراتيجية بأنّ إيران تخترق روح الاتفاق النووي، مثل اختبارات الصواريخ الإيرانية التي يمكنها لاحقاً حمل رؤوس نووية..
ما هو مستقبل العقوبات على إيران؟ العقوبات الأمريكية عليها لا زالت قائمة باستثناء عناصر محدودة كالطيران المدني والمنتجات الزراعية؛ والقانون الأمريكي يسمح للرئيس أو للكونجرس بإعادة فرض عقوبات اقتصادية على إيران، دون أن يخل بالالتزام الأمريكي بالاتفاق النووي مع إيران. وحسب مستشاري الإدارة الأمريكية فلا البيت الأبيض ولا الكونجرس سيتخذان أية خطوة لتخفيف العقوبات على إيران، بل إنّ الاتفاق النووي مرجّح للتغيير في ظل الأوضاع المتقلبة في المنطقة والعالم.. وفي هذا السياق نشر مؤخراً السفير الأمريكي السابق لدى الأمم المتحدة جون بولتون، خطّة للانسحاب من الاتفاق النووي واعتماد سياسة ضغط على إيران قد تصل لحد تغيير النظام.