إبراهيم عبدالله العمار
قبل 2000 سنة كان هناك إمبراطوريات شاسعة في أوروبا وآسيا لا نزال نرى تأثيرها على العالم اليوم، كالإمبراطورية الرومانية، وإمبراطورية أشوكا في الهند، وإمبراطورية سلالة هان الصينية، لكن يسأل كاتب التاريخ نيل مغريغور سؤالاً شائقاً: كيف تبث الامبراطورية قوتها؟ كيف يُحكِم الزعيم سلطانه في أذهان الرعية؟ القوة العسكرية وحدها لا تكفي، بل قد تكون هي أبسط العناصر! والجواب هو أن الكلام عنصر فعال، كالخطباء والمتكلمين ممن يروّجون لمجْد الامبراطور، لكن كما قيل فإن الصورة أبلغ من ألف كلمة، ولذا فمن أفضل الطرق لترسيخ الأباطرة في الأذهان صورة يراها الناس كل يوم: العملة.
شيء معروف، والمتاحف تزخر بهذا، ومنها عُملة سُكَّت في تركيا قبل ميلاد عيسى عليه السلام بثلاثمائة سنة، موجودة اليوم في المتحف البريطاني، وعليها صورة أشهر الزعماء آنذاك: الاسكندر الأكبر. العجيب أن هذه لم يسكّها هو، بل أتت بعد وفاته بأربعين سنة! ما السر؟
الذي أصدرها الملك ليسيماتشوس، وأمر أن يجعلوا عليها صورة الاسكندر. إنها صورة قائد ميت، لكن هدفها أن تحمل رسالة سياسية. هذا ما زال مستمراً إلى اليوم، فالصين مثلاً لا تزال تصدر عملات عليها صورة ماو زيدونغ المتوفي قبل عشرات السنين، وذلك للاستئثار بإرثه السياسي (توحيد وإعزاز الصين)، والولايات المتحدة لا زالت تضع صورة جورج واشنطن على فئة الدولار.
لكن تختلف صورة الاسكندر تلك عن صورتي واشنطن وماو التي روعي فيها الدقة، فالاسكندر عندما تنظر إلى شعره في العملة هذه ترى...قروناً! لا ندري بالضبط شكل الاسكندر، فصوره تضاربت كثيراً، لكن هذه العملة بغض النظر عن صحة شكله فيها فإنها تمثّله هو قطعاً بسبب القرنين هذين، لأنهما يرمزان لإله يسمى زوس-أمون، وهو مزيج من زوس إله اليونان وأمون إله المصريين، والاسكندر كان هو الذي أخضع هاتين الدولتين.
نشأ الاسكندر بطموح لا حد له، والأهم من هذا الطموح تربيته، فأبوه القائد فيليب كان صاحب شأن، لكن أعظم ما وجّه تفكير وعقل الاسكندر هو المربي الذي اختاره أبوه له: أرسطو. فيلسوف لا يحتاج تعريفاً، شحذ عقل هذا الطفل صاحب الهمة التي تناطح الجبال ونفى من عقله طيش الشباب. بدأ الاسكندر بإطفاء الثورات التي اشتعلت ضده في اليونان، ولما انتهى من توطيد ملكه التفت للعملاق الشرقي الذي طالما كان أعتى عدو لليونانيين: الفُرس. بعد 10 سنوات من الحروب المريرة قهرهم الاسكندر، وهو إنجاز ضخم لما للفرس من قوة عسكرية وحنكة سياسية، وبعدها موّلَ فتوحاته بما استولى عليه من بيت مالهم، وهي ثروة لا يتخيلها العقل: أكثر من 5 ملايين كيلوغرام من الذهب!
توفي الاسكندر شاباً في الثلاثينات من عمره، ولأن الدولة قامت على شخصيته فإنها تفتتت فور موته، وتقاسمها قادته، منهم ليسيماتشوس المذكور الذي ضرب تلك العملة آملاً أن يستحوذ ولو على اليسير من سُلطان الاسكندر وطاعة الناس له، وكان له جزء صغير من الدولة، ورغم أن ليسيماتشوس مات وزال إلا أن منهجه هذا -استغلال سمعة زعيم سابق- ما زال قائماً اليوم بعد أكثر من 2300 سنة، واسأل الأمريكيين والصينيين!