نجيب الخنيزي
مرت علينا الذكرى السنوية (87) لتأسيس كياننا الوطني (المملكة العربية السعودية) الراسخ، الذي شكل نقلة نوعية في حياة أبناء هذه البلاد، والمتمثل في تجاوز حال الانقسام والفرقة والاحتراب والتشطير والتخلف والفقر والركود العام الذي ساد لقرون في الشطر الأكبر من أصقاع الجزيرة العربية، وفي الواقع فإن الظروف الموضوعية السائدة آنذاك، والتي تتسم بالافتقار إلى الحد الأدنى للتماسك والتشكل الاجتماعي والاقتصادي والثقافي (باستثناء الحجاز) كانت بحاجة إلى توفر العامل الذاتي المحرك، الذي تمثل في شخص عبدالعزيز آل سعود الذي امتلك وتوافرت فيه خصال وسمات رجل التاريخ، والتي من أهمها الشجاعة والإقدام، والروح القيادية والحنكة والدراية، وفهم واستيعاب واقع الجزيرة المعقد، والمليء بالتناقضات والتباينات المناطقية والقبلية والمذهبية والثقافية، وقدرته على فهم واستيعاب موازين القوى على الصعيدين الإقليمي والدولي، وتجاذباتها وتناقضاتها، وتأثيراتها المختلفة في الواقع المحلي، وتعامله معها بحنكة ودراية وصبر في خططه التكتيكية والاستراتيجية، ما أهله لتحقيق ما فشل الآخرون فيه، وهو بناء أول تجربة وحدوية عربية ناجحة في العصر الحديث، وهذا لا ينفي بطبيعة الحال حجم التحديات الكبيرة والخطيرة التي واجهت الملك المؤسس في سعيه لإرساء التوحيد الجغرافي - السياسي، ومن ثم مواجهة مستلزمات ومتطلبات التوحيد الوطني والمجتمعي، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة، وعمق الانقسامات المتأصلة.
واجه الملك المؤسس على هذا الصعيد مختلف التحديات والمعيقات، وخصوصاً تصديه لقوى الجمود والتعصب والتخلف، التي لم تستطع الارتقاء إلى مفهوم هذه الرابطة الوطنية الجديدة، ولم تستوعب ضرورة مواءمة الشريعة والدين مع معطيات العصر، وبأنه لا تناقض بين الأصالة والمعاصرة، القديم والجديد، التقاليد والحداثة، باعتبارها مفاهيم تاريخية متداخلة ومتشابكة، وبكلمة بين واجبات ومتطلبات الدين (العبادات والمعاملات) ومستلزمات الدنيا والعمران البشري، ومع أن الملك عبدالعزيز لم ينتهج سياسة الراديكالية (الجذرية) بل اعتمد سياسة الإصلاح التدريجي، إلا أن ذلك أدى عملياً إلى ولوج المجتمع والكيان الجديد مرحلة جديدة تقتضيها احتياجات ترسيخ دولة وكيان سياسي مركزي موحد.
استطاع الملك عبد العزيز التعامل مع الانقسامات الموضوعية والقوية الجذور بتفهم ودراية وتسامح وسعة صدر، ولم يستثن من ذلك حتى من كانوا أعداء فيما مضى، غير أنه لم يتردد في حسم الصراع مع التشكيل القبلي - الديني المتشدد (معركة السبلة 1929) المعادي للدولة المركزية والتزاماتها المدنية، ومسؤولياتها الوطنية والخارجية، وهو ما ميز رجل الدولة المحنك الذي ينظر إلى جميع المواطنين وفئات الشعب ويتعامل معهم بمعيار واحد.
اليوم الوطني في هذا العام له نكهة وطابع خاص على الصعيد العام وبالنسبة للمرأة السعودية بشكل خاص، إذ تحولت المناسبة من مجرد يوم عطلة رسمية مع بعض الفعاليات الإعلامية المعتادة، إلى مهرجانات وتجمعات فرح حاشدة للأفراد والأسر بما في ذلك النساء والأطفال، وكان مبهجاً وجود النساء لأول مرة على مدرجات استاد الملك فهد الرياضي.
غير أن الحدث الأبرز بالنسبة للمرأة التي تشكل نصف المجتمع، هو صدور المرسوم الملكي السامي الذي تضمن «نشير إلى ما يترتب من سلبيات من عدم السماح للمرأة بقيادة المركبة، والايجابيات المتوخاة من السماح لها بذلك مع مراعاة تطبيق الضوابط الشرعية اللازمة والتقيد بها.. لذا؛ اعتمدوا تطبيق أحكام نظام المرور ولائحته التنفيذية - بما فيها إصدار رخص القيادة - على الذكور والإناث على حد سواء، وأن تشكل لجنة على مستوى عالٍ من وزارات: (الداخلية، والمالية، والعمل والتنمية الاجتماعية)؛ لدراسة الترتيبات اللازمة لإنفاذ ذلك، وعلى اللجنة الرفع بتوصياتها خلال ثلاثين يوماً من تاريخه، ويكون التنفيذ - إن شاء الله - اعتباراً من 10-10-1439هـ ووفق الضوابط الشرعية والنظامية المعتمدة، وإكمال ما يلزم بموجبه.
ولقي الأمر السامي الكريم لخادم الحرمين الشريفين سلمان بن عبد العزيز صدى وترحيبًا واسعاً، على الصعيدين الداخلي والخارجي، وقالت هيئة كبار العلماء: «حفظ الله خادم الحرمين الشريفين الذي يتوخى مصلحة بلاده وشعبه في ضوء ما تقرره الشريعة الإسلامية».
ونذكر هنا بكل صدق وشفافية أن واقع وطموح المرأة في بلادنا في العديد من المجالات كان يصطدم بعقبات عدة من بينها عوامل اجتماعية (مجتمع أبوي ذكوري) وموروثات ثقافية وايديولوجية ومعوقات سياسية وبيروقراطية. ويكفي أن نشير هنا إلى المراوحة والممانعة بين بعض مكونات المجتمع، وأطيافه الثقافية والفكرية حول قضايا حيوية مثل جدوى وأهمية تعليم وعمل المرأة في كافة المجالات المتاحة، أو قيادتها للسيارة، وتحديد مواصفات مظهرها وحجابها (وذلك تحت عنوان الخصوصية التي تصورنا طفرة جينية نعيش بمعزل عن كل ما حولنا من البشر) وغيرها من قضايا تتصل بحقوق المرأة الإنسانية الأساسية التي حسمها التطور العالمي في مختلف بلدان العالم، بما في ذلك البلدان العربية والإسلامية، ناهيك عن بلدان مجلس التعاون، التي نتماثل ونشترك ونتداخل معها من حيث طبيعة النظم السياسية، والبيئة الاجتماعية والثقافية السائدة.
لقد أثبتت المرأة السعودية جدارتها بل تفوقها في مجالات التعليم والعمل والمعرفة وغيرها من المجالات، كما هي محل اهتمام وتقدير من قبل القيادة السياسية.
لاشك أن السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة هو مكسب تاريخي وحضاري وإنساني، كما ستكون له تأثيراته الإيجابية على الصعيد الاقتصادي/ التنموي.
التجربة التاريخية تؤكد أنه يمكن لأي مجتمع ينشد التقدم والتطور والتنمية المستدامة، وأن يكون عنصراً مشاركاً وفاعلاً في التاريخ والحضارة الكونية، أن يسير بنجاح معتمداً على قدم واحدة، وأن يقلع وينطلق بتوازن اعتماداً على جناح واحد.