عبد الله الماجد
في مقالاته العشر تلك التي أشرت إليها، في مقال سابق, وعنوانها «الترجمة الميتة واستدراك على مقارنات سابقة ضمن كتابي عن رباعيات الخيام» ناقش أبو عبد الرحمن، عدة قضايا، منها الأسطورة، وانتقالها بين مصادر وإبداع الشعراء على وجه التعيين.
وأشار إلى أسطورة «ديك الجن» وإلى الحدث الذي بني عليه «شكسبير» مسرحيته «عطيل» وانتهي إلى القول إن شكسبير قد أطلع على مصادر عربية، واستفاد منها. وهذا نص قوله في ختام تلك الحلقات:
« وحسبنا أن مسرحية عُطيل بكل إشاراتها ولقاءاتها شاهدة على أن الأصل انتقاءٌ من أسطورة عربية، وأن شكسبير المثقَّف غير غائب عن أُمَّهات التراث العربي التي انتقلت في عهده وقبل عهده إلى العالَم الأوروبي، وأما الدراسات الأدبية والثقافية والحضارية بين عطاء الأمم، والتأكيد على مصدر معين للسابق اعتمده اللاحق فذلك خير وبركة يطلب الباحث الجاد المزيد منه، ولكن اليقين بأن أساس (مسرحية عطيل) أسطورة عربية لا يتوقف على أُمنيَّة المقارنة الواعدة، ولعل في هذا ما يكفي إلى أن يكتمل الموضوع في كتاب مستقل إن شاء الله). (انتهى)
وأنا لست من المتخصصين بالبحث والدراسة في هذا الموضوع. ولكنني أستطيع - في عموميات هذا الموضوع - أن أبدي رأيا، وأوله أنني اتفق مع شيخي أبو عبد الرحمن، أن الترجمة قد أفسدت الإبداع، وأن لغة الإبداع الذي نمي في عصره، وأصبح ابن عصره - ومثال ذلك رباعيات الخيام، ونصوص شكسبير - تنتحر على أيدي المترجمين؛ الذين لا يدركون أهمية ارتباط اللغة بعصرها، هذا عدا أن بعض المترجمين يُشبه مُترجم «جوجل» على الإنترنت. وقد طرح أبو عبد الرحمن أمثلة على ذلك في مجال ترجمة الإبداع واصفاً ذلك «بالترجمة الميتة». ولكن الأمر لا يتعلق بالإبداع وحده, فإن ترجمة العلوم الأخرى تعاني من هذا الانتحار، مثال ذلك الذي يتصدي لترجمة الكتب التاريخية والجغرافية، فأحد هؤلاء تصدي لترجمة رحلة بالحريف، المزعومة إلى وسط الجزيرة العربية التي زَعم أنه قام بها في عام 1862. وكنت قد اقترحت عليه القيام بهذه الترجمة, معتقداً أن إقامته في بلادنا لمدة أكثر من عشر سنين, تؤهله إلى معايشة أسماء المواضع والأعلام، ومن ثم كتابتها على وجهها الصحيح عند الترجمة, وحينما بدأت مراجعة الترجمة وتحقيق أسماء الأعلام والمواضع، وجدت أن الأصل يحتاج إلى تحقيق أسماء المواضع والأعلام, ولكنه ظل على أخطائه في الترجمة العربية, مُكررًا أخطاء الأصل, وللأسف فإن المركز القومي للترجمة بالقاهرة, نشر هذه الترجمة وكنت قد نبهتهم إلى ما يعتري هذه الترجمة من أخطاء, وأنني عملت على مراجعتها ولكن الأخطاء فيها كثيرة مما يحول دون نشرها. وأنني لهذا السبب رفضت نشرها, واحتفظت بمراجعاتي للترجمة. والأمثلة كثيرة، ومنها أن إحدى دور النشر المحلية، عنيت بنشر بعض كتب المستعرب «عبد الله فيلبي» ووقعت ضحية الترجمة التجارية وبرغم أسماء المراجعين المعروفين، جاءت الترجمة مشوهة، وفي أحيان كثيرة مُحزنة، في كتابة كثير من أسماء المواضع والأعلام, حتى الأعلام المشهورين كأسماء الأنبياء, حيث كتب اسم «يعقوب عليه السلام» «جاكوب» - هكذا.. وفي تجربتي في مجال نشر الكتب المترجمة في موضوعات أكاديمية حديثة وجدت من يترجم في موضوع «الإمدادات» المعروف باسم «اللوجيستيات» يُترجم «النقل الجوي» ويضع مقابلها «النقل بالهوا» لأنها في أصلها الخواجاتي Air Transport. وهكذا فإنه يترجم «النقل البري» «النقل الأرضي» لأن أصله في اللغة الأخرى Land Trnsportation.
ولهذا يقول أبوعبدالرحمن: «مسكِين مُسكِين طالب العلم الذي لا يُجيد غير لغة الأم التي نشأ عليها, وهو مُبتلى بحب الاستطلاع» وهذا القول ينطوي على أن بعض من ليس بطالب علم لا يعاني من هذه المشكلة, في حين يُعاني منها بعض طلاب العلم المأصلين, ممن لم يُتح لهم تعلّم لغات أخرى. ولهذا فإن أسلافنا العرب الأفذاذ قد فطنوا إلى هذه المعضلة, فتعلموا لغة الإغريق التي انقذوا بها تخلف أمم أخرى, وعلى دروبهم سار من سلك درب الاستشراق. ومُعضلة اللغة الأخرى, لم تحرم أبا عبدالرحمن. فيض علمه وسعته ونهمه, فقد جُبلتْ نفسه على «أن تتعلق من كل علم بسبب, وأن تضرب فيه بسهم» - كما قال «ابن قتيبة» صاحب أدب الكاتب - ولكنه لو كان صاحب لغة أخرى أو لغتين, لكان من آحاد عصره, مثل سلفه «الفارابي» الذي قِيل أنه يتحدث بعدة ألسن.
وفي قضية ترجمات بعض مسرحيات شكسبير, أحيل أباعبدالرحمن إلى مسرحية «ماكبث», وقد ترجمها ترجمة رائعة وباذخة, الراحل الفذّ «محمد فريد أبوحديد» (1893 - 1967) وصدرت ترجمتها في 1957م, وهو من القلائل, الذين تنبهوا إلى عصر شكسبير اللغوي والانثربولوجي وقد ترجمها شعرًا مرسلاً, وتعرضت إلى ذلك بشكل موجز, وأنا استعرض وأحلل قصص الكاتب المبدع «عبدالله الناصر» وهو أحد مبدعي اللغة المتميزين, ومما قلته في هذا الشأن:
«يذكرني هذا على نحو آخر, بما ذكره الراحل «محمد فريد أبو حديد» حينما كان يترجم «ماكبث» مسرحية شكسبير المعروفة, يقول أبوحديد:
«لغة شكسبير تتميز في ذاتها بأن الشاعر يستخدم فيها ما يشاء من الألفاظ لما يشاء من المعاني, ويركب عباراته غير متقيد بمثال لغوي مقرر. فهو ينحت الأوصاف نحتاً لا يكاد يوجد له مثيل حتى في اللغة الإنجليزية».
ويسوق أبوحديد مثالاً لذلك, يقول فيه شكسبير, بما يمكن ترجمته نثرًا عن لغة شكسبير الخاصة, في قوله على لسان «ماكبث» لزوجته قبل أن يُقدم على قتل منافسه «بنكو» ما معناه:
«تمهلي قليلاً, فإنني سأقدِم على عمل خطير يدوي صداه قبل حلول هذا المساء».
ولكن أبا حديد يُعبر عن ذلك بالطريقة الشكسبيرية في نحت الاوصاف على هذا النحو:
«فمن قبل خروج الخفاش في طيرانه,
تحت ظل الرواق في إيوانه,
قبل أن تصـدح الجعارين طوعاً.
لمناداة هيكت السوداء
بجناحين يشبها حطام الشقف
تُـعُلى طنينها وسنانا,
عازفات مثل النواقيس في الليل
عزيفـاً متثائبـاً نعساناً,
قبل هذا, يكون قد تم فعل ذو دويّ
مـروّع,»
نحن هنا بإزاء نص شعري مكثف الرؤى والمعاني, يُعبر عن لغة «شكسبير» الخاصة به التي ينحت من خلالها أوصافها وتراكيبها, وهي صور غامضة, بذل مترجمها الجهد في الاحتيال على التعبير, حتى تتهيأ له عبارة عربية سليمة, مع المحافظة على المعنى الأصلي - كما يقول - لكنها مثال حي على توليد المعاني وتخليق اللغة. وسوف تتضح القيمة الفنية لهذا النص الشكسبيري, إذا ما حاولنا إلقاء الضوء عليه لإزالة غموضه الشفاف.
فالحدث الخطير هنا دون أن يُصرح به الشاعر بلغة مباشرة تقريرية, سيقع في المساء, ويشير إلى ذلك بطيران الخفاش تحت الأروقة في القصر, ومعروف أن الخفاش يطير مع حلول الليل, ويسمع صوت الجعارين استجابة لنداء «هيكت» أو هيكات» ربة السحر والشر, «محمولة على أجنحة تشبه قطع الخزف المحطم, والنواقيس تدق دقة المساء في بطء يحمل على التثاؤب, إشارة حسية إلى قدوم الليل. كل هذه الصور تضفي على الحدث هالته ورعبه, عبر لغة مُخلقة, وصور مبتكرة, ومعان مُولدّة. هذه صورة إبداعية, فإذا ما طرحنا سؤالاً في مسألة «الإبداع واللغة»: كيف يُبدع العقل اللغة, كان جوابه في هذا النص المأخوذ عن «شكسبير». وعلى هذا فإنه يمكن النظر إلى اللغة, باعتبارها وعاءً للفكر». (انتهى)
وسوف أضع هذا المقطع من ترجمة «أبي حديد» مع نفس المقطع من ترجمة الدكتور «محمد مصطفي بدوي». وهو أستاذ الأدب العربي في جامعة أكسفورد. وقد نُشرت ترجمة الدكتور بدوي لمكبث في سنة 2001. وطبعتها الثالثة صدرت عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة 2016. ولم يُشر في مقدمته إلى ترجمة «أبي حديد» التاريخية، بينما أشار إلى ترجمة «جبرا إبراهيم جبرا». التي صدرت في الكويت سنة 1980 في سلسلة «المسرح العالمي». وصدّر ترجمته بمقدمة وافية بعنوان: «وليم شكسبير الشاعر المسرحي» وقبل أن نعرض نفس المقطع الذي ترجمه الدكتور بدوي لابد أن نشير إلى ملاحظته حول ترجمة «جبرا» وهي تصح أن تُقال في شأن ترجمة «أبي حديد» يقول الدكتور بدوي:
«كان رائدنا في هذه الترجمة أن نجعلها بأسلوب سهل بحيث يُصبح تمثيلها على خشبة المسرح أمرًا يسيرًا كل اليسر، وهذا أيضاً هو ما يميز ترجمتنا عن ترجمة الصديق الراحل جبرا التي - على الرغم من دقتها بصفة عامة - وجدناها حرفية أحياناً وأحياناً أخري شديدة القرب في قوالبها وتراكيبها من قوالب الأصل الإنجليزي بحيث يتعذر إلقاؤها على المسرح بما يلزم في نظرنا من تلقائية الأداء». (ص 7).
ومعنى هذا الكلام أننا بإزاء طريقتين في الترجمة: ترجمة تضع المتلقي قريباً من الأصل وروحه، وهذه الطريقة تحافظ على منحى «التنوع الثقافي» لأنها لا تُلغي ملامح الأصل وروحه وعَبقه، وطريقة مهنية لدواعي أخرى غير ذلك ومنها دواعي التمثيل المسرحي، الذي لا يمكن أن يؤدي بطريقة القرن السادس عشر كما كان في عصر شكسبير. وهذه المعضلة واجهتني في تحليل الترجمات العربية لرباعيات الخيام، إذ كان بعض المترجمين أمثال «الصافي النجفي» يتباهي بأنه يُقرّب الرباعيات إلي الذائقة العربية. وقد تحولت الرباعيات على أيدي بعض المترجمين إلى رباعيات عربية، وليست فارسية، وألغت «روح التنوع الثقافي». وهذا هو ذات المقطع من ترجمة الدكتور مصطفي بدوي:
« قبل أن يطير الخفاش من وكره بين الأروقة وتلبي خنفساء الروث نداء ربة السحر هيكاته السوداء فتقرع بطنينها الناعس ناقوس الليل المتثائب ستحدث فعلة ذات جرس رهيب». (ص 119).
وبالطبع، فأنا أفضل ترجمة أبا حديد، علي ترجمة الدكتور مصطفي بدوي، وإن كان قد تَسلّح باعتذار مهني مُعتبرًا أنه يترجم للمسرح، وليس يترجم شكسبير بلغته وعصره، ولست ناقداً متخصصاً في المسرح حتى يكون رأيي مهنياً، ولكنني أتسلح بذاكرتي وذائقتي، التي احتلها نص «شكسبير أبوحديد» ويَصحُ أن نَرى في ترجمة «محمد فريد أبوحديد» ما أشار إليه الدكتور بدوي نفسه، في فقرة أخرى من مقدمته لترجمته مكبث وكتب يقول:
«ومن مصادر صعوبة فهم شكسبير اختلاف خلفية المسرحيات أو ظروفها - خلفيتها الاجتماعية والسياسية ولاسيما خلفيتها الفكرية والفنية - حقاً إن شكسبير هو من أكثر الكتاب عالمية، غير أنه لا يزال شاعراً والشعر ولاسيما الشعر العظيم هو في نفس الوقت شديد المحلية وشديد العالمية، وحين يكون الشاعر في مستوى عظمة شكسبير نجده يستخدم اللغة بأقصى طاقاتها، واللغة تختلف عن وسائل الفنون الأخرى في أن الكلمات هي مستودع تجارب شعب بأسره.
ولن يبلغ الشاعر العالمية إلا من خلال تمثيله وتحويره لما هو محلي ووطني فاللغة الشعرية ليست لغة مجردة أبدًا بل هو العكس فهي غالباً وفي حالة شكسبير تكاد تكون دائمًا مليئة بالصور المحسوسة، وفي أكثر الأحيان لا يشعر المرء بالدلالة الكاملة للصورة إلا في سياقها الطبيعي المباشر وأحياناً في سياقها الجغرافي فالقارئ الذي له دراية بجغرافية إنجلترا يدرك في صور الطبيعة عند شكسبير أكثر مما يدركه قارئ لا تتعدى تجربته الصحراء أو لم ير إلا الأشجار دائمة الخضرة، هذه حقيقة بديهية وإن كان ينبغي تأكيدها». (ص ص 15، 16).
هذا التمهيد عن الترجمة, ومما له صلة بترجمة «متون شكسبير». أما عما يمكن أن يكون له صلة, بمصادره العربية. وهل أن شكسبير غير غائب عن التراث العربي, مما يُمهد للقول أن شكسبير, قد تأثر بمؤثرات عربية, في بناء أحداث بعض مسرحياته؛ ففي مقال آخر قادم بإذن الله.