عبدالعزيز السماري
لا يمكن قياس مراحل التغيير الديموقراطي في المجتمعات من خلال الشعارات السياسية أو أطروحات الثقافة والرأي وغيرها، ولكن من خلال رصد دقيق للتحولات الاجتماعية المتدرجة، التي تحدث عبر تغيرات متتالية في الوعي لدى الأفراد، ثم يقابلها استجابة طوعية من السلطة، وهكذا..
تاريخنا الاجتماعي حافل بتلك التحولات، وقد ساهم الاستقرار السياسي والاقتصادي في دفع المفاهيم الديموقراطية إلى الأمام، التي عادة ما تبدأ في مراحلها الأولى بحالة انشطار أو انقسام في الرأي الموحد، ثم تتوالى الانقسامات تماماً مثل عملية الانقسام في الخلايا، إلى أن تصل إلى حالة التعددية وقبول للآراء الأخرى.
كان أصعب حالات الانقسام في الطرح الديني المتزمت والملتزم بتضامنه، وقد عُرف عنه التشدد والتطرف والعنف من أجل فرض الرأي الواحد، وبالرغم من التطور الكبير إلا أن العقل الديني لم يصل بعد إلى مرحلة إعلان عن قبول الرأي الآخر، فحالة العداء بين الآراء المختلفة في الفتاوي الدينية لم تتغير، لكنها بالرغم من ذلك تعددت بسبب استجابة السلطة لتلك الحاجة الاجتماعية.
كانت الآلة رمزاً لتقبل الاختلاف في المراحل الأولى، فكان الموقف المبدئي منها هو التحريم، لكن الآراء التي رأت جواز استخدماتها انتصرت، وكان ذلك ثمناً لانتقالها إلى المرحلة التالية بينما اختفى الرأي الذي قام بتحريمها، وكان آخر مراحل تلك الحقبة تعدد آراء جواز استخدمات آلات التصوير والتلفزيون والجوال وغيرها.
كان الرجل، في مجتمع الرأي الواحد، صاحب السبق في كسب بعض من حقوقه مثل حق السفر والتعليم في الخارج، بينما كانت المرأة الكائن الأضعف في رحلة البحث عن الحقوق، وقد تحولت بالفعل إلى شعار ديموقراطي في المرحلة التالية في عملية الانشطار الإيجابي للآراء وتعددها.
كانت بداية التغيير بانتصار الرأي الذي يؤيد حقها في التعليم، وكان آخرها انتصار السلطة والمجتمع لحقها في العمل ومتابعة شؤونها بدون وصاية أو ولاية، وما زال حقها في قيادة السيارة سيد المرحلة، ويبدو أنه في طريقه إلى الحل، بعدما ما ضعفت الآراء المقاومة لحقها الطبيعي في استخدام وسائل التنقل.
تشكل المواقف الإيجابية المتوالية ضد العنف والتعذيب والتسلط في المجتمع خطوة مهمة في الطريق الطويل نحو الثقافة الديموقراطية، فالمجتمع وصل بالفعل إلى مرحلة استنكار التسلط وتعنيف الآباء والأمهات لأطفالهم، بل أصبح العنف ضد الأطفال جريمة يُعاقب عليها فاعلها، وهو ما فتح الباب على مصراعيه لحقوق الطفل.
كان الموقف المبدئي ضد ربط الدين بالعنف والإرهاب أهم المواقف الإيجابية ضد ثقافة العنف، فقد تخلى رجال الدين عن استخدام وسائل الترهيب والتعنيف للمجتمع عندما ينهون عن المنكر في شوارع المدينة، وكانت ذلك بمثابة الدخول من أضيق الأبواب نحو مرحلة قبول الثقافة الديموقراطية في المجتمع..
التحول الديموقراطي لا يبدأ من أعلى، ولكن يتطور وينمو من الطبقات الأدنى إلى الأعلى، وقد يصبح مؤثراً عندما يتحول إلى رغبة عامة، تؤمن بالرأي المتعدد والحقوق المتعددة..
قد يصل الوعي الديموقراطي إلى مراحل متقدمة عندما تختفي أو تتضاءل مظاهر العنف اللفظي والبدني في المجتمع، وعندما يتوقف الخطاب السلطوي من ممارسة فرد عضلاته على الكائنات المسالمة في المجتمع، لكن نستطيع القول إن المجتمع وصل بالفعل إلى المرحلة الأكثر نضوجاً حين يصبح القانون سيدًا للموقف في المجتمع.