د. حسن بن فهد الهويمل
قلت، ولمَّا أزل أبدي، وأعيد القول: إنني مسكون من رأسي إلى أخمص قدمي بَهَمِّ وطني. ومثمناته، لا أزايد على شيء منها، إلَّا إذا زايدت على حياتي، وأهل بيتي. وكيف تتأتى المزايدة، والله جلّ، وعلا ربط بين [النفس، والوطن] في الأهمية، بصريح العبارة:-
{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم}. فهنا ربط واضح بين القتل، والإخراج من الديار.
[الوطن] في حسابات الربح، والخسارة أولٌ، وآخر. لا يعادله إلاّ قتل النفس. والمغثون، الغثائيون، يَسْلقون المخالف بألسنة حداد، حين لا يوافق أهواءَهم المؤَلَّهةِ.
فعندما نشرت مقالي: [الوطن أولاً، والوطن آخراً] هاج الخليون، وماجوا. وغرّد أحدهم: [الدين أولاً].
وظنّه السَّيئ الذي أرداه، صوّر له فداحة الخطأ المتمثل بذكر الوطن دون الدين، على حد زعمه. وكأن الانتماء للوطن ضد الانتماء للدين. وهذا القول يشي بخطيئتين:-
- الفهم السقيم:
[وَكَمْ مِنْ عائِبٍ قوْلاً صَحيحاً
وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السّقيمِ]
- الاستعداء بالدين. والدِّينُ مَعَ مَنْ عَدَا بِهِ ــ كما يقال ــ.
وفات تلك الفئات المسكونة بهمّ الآخر، لا بهمّ الوطن أنّ الوطن ليس أبنيَةً خرسانية، ولا أكواماً ترابية:
[وَمَـا حُـبُّ الدِّيَـارِ شَغَفْـنَ قَلْبِـي
ولَكِـنْ حُـبُّ مَنْ سَكَـنَ الدِّيَـارَا]
- فمن يسكن الديار؟.
أهي الصوامت، والنوابت. أم هي المقدّسات التي تهفو إليها أفئدة الناس، والمساجد وعُمَّارها، والآباء، والأمهات، والأبناء، والبنات، والقادة، والعلماء، ورجال الأمن، والمدافعون عن الكرامات، المرابطون على الثغور.
الوطن جِسْمٌ روحه العقيدة. وطن يُذْكر فيه اسمُ الله، ويُحَكَّم فيه شرعه، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وتصان فيه الحريات، والكرامات، وكافة الضرورات.
هذا هو الوطن كما أراه. ومن رآه على غير ذلك فقط غمط الحق، وتعمّد التضليل. إنه مجموعة قيم، يأتي [الدين المجرد من الطائفية، والمذهبية] منها في الذروة. وبدونه تتخشب المشاعر، وتتجمد الآمال:
[وكُلُّ الذي فَوقَ التُّرابِ تُرابِ].
وهل سَلَفِيٌ مثلي يجهل ذلك؟، أو يحتاج إلى مهتاج، أعْزَلٍ ليرشده.
إنني حين أتغنى بالوطن، فإنما أتغنى بقيمه:- الدينية، والدنيوية. وبتاريخه المجيد، وبكل أشيائه الحميدة.
- وهل عاقل يتنكّر لوطنه تحت أي مضمرات، يُسَوِّقُ لها الخليون؟.
وبصرف النظر عن دعاة [الأممية] الهائمين بأحلامهم الطوباوية، فإنّ هناك فئات يستبطئون رؤى، وتصورات، يتلقّونها من جهات خارجية.
وظنهم الأسوأ أنّ مضمراتهم المشبوهة يمكن تحقيقها، دون المساس بما وفّر قادتهم لهم من: أمن، واستقرار، ورخاء، وعزة، وكرامة، لم يتوفر عليها أحد ممن غرر بهم.
وكل جماعة نائمة، أو متحفزة. وكل جهلة مندفعين يظنون أنهم بشعارٍ أجوف، وصوت فارغ له دوي الطبل يستطيعون:-
- اقتيادَ العلوج من صياصهم
- وإلغاءَ حضاراتٍ يرونها بعيون السخط، [حقارات].
- وتدميرَ قوى ضاق بها البر، والبحر، والفضاء.
- وإعادة العالم كله إلى أحلامهم الطوباوية، عهد [الخلافة الراشدة].
- متناسين واقعاً كالجبال الراسيات.
- متجاهلين قوى كالطوفان.
- متنكبين عن ذكر نُفُوذٍ بَغِيضٍ يحول بين المرء ونفسه.
- وهل مؤمن لا يود الخلافة الراشدة؟
وطننا في غمرة التجاذبات العالمية مستهدفٌ بقوى، وأحزابٍ، ومنظماتٍ، وعملاءٍ منذ الانقلابات العسكرية.
لقد ثبت على ماهو عليه من سلفية مستنيرة، تجنح إلى السلام، والتصالح، والتفاعل محققة بمرونتها:
ما ننعم به، وما يغبطنا عليه الصديق، ويحسدنا عليه العدو. إنه واقع يشكل تحدياً صارخاً لحكومات تهدهد شعوبها بلغة التخدير:-
نَامِي عَلَى الخُطَبِ الطِّوَالِ
مِنَ الغَطَارِفةِ العِظَامِ
نـَامِي عَلَى زَبَـدِ الوعـود
يُدَافُ فِي عَـسَل ِ الكلامِ
نـَامِـي عـلى مَـهْدِ الأذى
وتوسَّـدِي خَـدَّ الرَّغَـامِ
فدعوى [الحرية]، و[الديمقراطية] و[القومية] وما يقابلها مجرد شعارات فارغة، [ألْهَتْ بني يَعْرُبٍ عن كل مكرمةٍ] فيما يبدو الواقع جحيماً لا يطاق، وكذباً لا يحتمل.
لقد فرض الأقوى مُمَثَّلاً بـ[اتفاقية سايكس بيكو] واقعاً لا محيد عنه. واقعاً كـ[صخرة الوادي إذا ما زوحمت]. {حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }، وإذ يقبل العقلاء المجربون بالممكن، فإنّ ذلك ليس عزوفاً، ولا زهداً بما هو خير.
هذا هو الممكن، لمن أراد الحياة الكريمة لأهله. أما من أراد أحلام [الربيع العربي]، وخدمة [الأَجِنْدَةِ] المشبوهة، والمثاليات، والعنتريات، والأحلام الطوباوية، وجَعْلها شعاراً لتحشيد البله، والسذّج، والمغفلين، فإنه قادر على البلاغة، والإبلاغ الكلامي لا غير.
نحن أمة إسلامية، مأمورة بالمستطاع: {لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، {الْآنَ خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}.
لا نملك كثرة فاعلة:- {وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ}. ولا نملك قوة رادعة:- {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً}، ولا نملك اتخاذ القرارات دون مراعاة الأحوال، والظروف:- [إِنَّما العَاجِزُ مَنْ لاَ يَسْتَبِدُّ].
ذلك قدر أمتنا. وتلك حالتها. ومن الخير أن تعي النخبة، والمتنخوبون، والعملاء المأجورون واقع أمتهم المتردي. وأن يدركوا إمكانياتها، وألا يفرطوا بمكتسبات حباها الله لمن شاء من عباده.
المزايدات الفجَّة، تعمق المآسي. وتوهن العزمات. وتمكن للأعداء المتربصين.
وواجب كل [خليجي] أن يمكن دولته من مواجهة [المد الصفوي]، و[اللُّعب القذرة]، و[التدخلات المكشوفة]. ليبقي على مكتسبه.
[المملكة] تفوق عالمها بتماسك لحمتها، وصلابة جبهتها الداخلية. وتلك أهم ما تملكه، وقد أثبتت للعالم أجمع أنها خارج المزايدات.
وكل المحاولات البائسة لاختراق جبهتها الداخلية باءت بالفشل، وخَيَّبَ المواطنُ الواعي كل آمال الأعداء، وانفضح المريبون.
ومع رهاننا الواثق على الجبهة الداخلية، فإننا نفاجأ بين الحين، والآخر بغزو من الداخل.
أنا لا أستعدي، ولا أحرض، ولكن ثقتي بقادة البلاد، ورجال الأمن، تجعلني أحَذِّر، وأقول بملء فمي:- [حصوننا مهددة من الداخل].
كل مواطن على ثغر من ثغور الوطن وواجبه ألاّ يغفل:- {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً}.
وسيان عندي أن يكون المتربص من الخارج، أو مواطناً مُسْتَدْرَجاً، أو مغفلاً مخدوعاً، أو واعياً معتزلاً.
كل فعلٍ، أو قولٍ، أو صمتٍ، أو حيادٍ يُمَكِّن الأعداء من رقاب المواطنين يعد خيانة عظمى.
وطننا وطن مسلم بكل المقاييس، والسعي في مصالحه من الجهاد الأكبر.