د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
أنظار العالم هذه الأيام مسلطة على الاستفتاء المقبل حول استقلال كردستان العراق وانفصاله بشكل كامل عن العراق. وتتخوف دول كثيرة من انعكاسات الاستفتاء على المنطقة لأن نتيجة الاستفتاء قد تكون معروفة سلفًا. ورغم أن إقليم كردستان العراق أصغر من إقليم كردستان تركيا ومن كردستان إيران إلا أنه غني بموارده الطبيعية والنفطية، وهو الإقليم الوحيد الذي يتمتع بسيادة ذاتية وتتوافر لديه قوة عسكرية أشبه بالجيش المستقل وهي البيشمرقة. وهناك نزعة انفصالية لدى كثير من القوميات منها قوميات في أوروبا كاستقلال اسكتلندا عن بريطانيا عبر استفتاء أيضاً، ومطالبات كاتالونيا باستفتاء عن الانفصال عن إسبانيا، غير أن أثرها المتوقع لا يقارن بالأثر الكبير التي سيتركه على خارطة العالم استقلال إقليم كردستان. فالأخير سيكون تأثير «دومينو» تسلسلي على استقلال الأقاليم الكردية كافة.
ولذا فقضية الوطن القومي الكردي يمكن أن تعد الأبرز في حركات الانفصال القومية الحديثة، ويضيف لزخمها اتساعها وتجانس القومية الكردية رغم اختلافاتها مناطقها الجغرافية، واختلافات مذاهبها الدينية، فما يجمع الأكراد كافة هو اللغة الكردية الواحدة، والطموح القومي المتصاعد. والكردية لغة هندأوربية من عائلة اللغات الفارسية، واسم «كرد» فارسي ويعني البدو الرحل حيث إن معظم الأكراد كانوا رعاة في جبال شمال إيران والعراق وسوريا وأذربيجان وأرمينيا. وتعد حواضر كردستان العراق، أربيل ودهوك أكبر الحواضر الكردية المدنية رغم أن عدد سكان كردستان العراق لا يزيد على ستة ملايين نسمة تقريباً، بينما عددهم في تركيا يقارب العشرين مليون، وفي إيران 15 مليون ويشكلون 20 في المائة من مجموع السكان في الدولتين. ويقدر إجمالي عدد الأكراد بخمسة وثلاثين مليوناً يعيشون في مناطق متصلة طبيعيًا مقسمة سياسياً، ورغم هذا الاتصال ليس لهم دولة تجمعهم. ويتكلم كثير من الأكراد، شأنهم شأن الشعوب الإسلامية الأخرى، اللغة العربية إلى جانب الكردية، فيما عدا أكراد تركيا الذين تعرضوا لعملية تتريك قوية نتيجة للمد القومي التركي في بداية القرن الماضي. ومعظم المناطق الكردية في تركيا الممتدة من ديار بكر، وماردين شرقاً إلى لواء الإسكندرونة غرباً مناطق سورية سلخت تاريخيًا من سوريا وألحقت بتركيا نتيجة لتوافقات فيما بعد الحرب العالمية الأولى.
وللأكراد تاريخياً دور كبير في صد الحملات الصليبية، وكتب التاريخ تذكر أن صلاح الدين الأيوبي الذي استرد القدس هو من أصل كردي. وقد استغلت إسرائيل التطلعات القومية للأكراد ودعمتهم في تطلعاتهم الانفصالية لزعزعة استقرار العراق وسلحتهم ودربت ميلشياتهم. ودعمت المؤسسات الإعلامية اليهودية القضية الكردية على مستوى عالمي، ولعبت القوى الصهيونية دورًا كبيرًا في دفع دول غربية وعلى رأسها الولايات المتحدة لدعم الأكراد بأوجه الدعم كافة.
الاستفتاء على الانفصال، كما يتوقع جميع المحللين مجرد إجراء شكلي، إذ إن إقليم كردستان العراق منفصل فعليًا عن محيطه العراقي، ولديه قوة عسكرية، وبرلمان، وعلم، وما بقي إلا بعض الشكليات التي تستكمل إنشاء دولة، كرسم الحدود أو الدستور أو السلام الجمهوري، والاعتراف الدولي. كما أن وضع العراق غير المستقر، وفساد السلطة وسيطرة إيران عليها جعلت الانفصال الخيار الأنسب للإقليم.
التخوف اليوم ليس من استقلال كردستان العراق، ولكن من التمدد القومي لهم في الدول الأخرى كتركيا وإيران، وبشكل أقل سوريا، إذ إن قوات سوريا الديمقراطية التي تدعمها أمريكا بالتدريب والعتاد هي قوات كردية في الأعم الأغلب، وهي مرشحة للالتحاق بشكل تلقائي بكردستان العراق في حال قسمت سوريا. وهناك صراع مستمر بين جميع الحكومات ذات التوجه القومي في تركيا والأكراد ممثلين بحزب العمال التركي. أما إيران فهي مكونة من خليط قومي متعدد ولو طالب الكرد الإيرانيون بالانفصال فهذا سيفتح الباب على مصراعيه للقوميات الأخرى لطلب الانفصال لا سيما في ظل تضييق الحكومة الإيرانية الحالية على هذه الأقليات، وإيران تدرك أن هناك قوى إقليمية ودولية عديدة ترى مصلحة في تفكك إيران.
خلاصة القول هي أن استقلال إقليم كردستان العراق سيكون بداية كابوس الدول المجاورة وليس نهايته لا سيما وهي تراهن على الضغط على الدولة الكردية المتوقعة بحصارها جغرافيًا حيث لا توجد لهذه الدولة المتوقعة أي منافذ برية وبحرية مستقلة. ولذا، فسيكون من غير المجدي محاولة منع استقلال كردستان العراق، وكل ما تستطيع الدول المجاورة المتخوفة من ذلك هو محاولة استغلال هذه الأمر للضغط بشأن شكل الكيان الكردي المرتقب ضمن اشتراطات سياسية معينة مثل قبول استقلال الإقليم اقتصادياً وسياسياً عن المركز مع بقاء بعض الأمور السيادية كالجيش والسياسة الخارجية مرتبطة بالعراق ضمن ترتيبات كونفدرالية معينة. لكن ذلك سيبطئ تطلعات الكرد القومية ولن يوقفها، فالأكراد في حقيقتهم يرون نفسهم شعب متوحد له الحق في وطن قومي واحد موحد يغير شكل المنطقة بشكل جذري في المستقبل. والتهديدات التركية والإيرانية باللجوء للقوة لوقف طرح الاستفتاء ستكون خيارا غير محمود العواقب وستذكي الصراع ولا يوقفه.