عمر إبراهيم الرشيد
يروي بعض العلماء والمؤرخين الأوائل أن آدم عليه السلام قام بالترجمة لبعض ذريته حتى يفهموا بعض إخوتهم الآخرين، بعد أن بلغوا عشرات الآلاف على حياة أبيهم وأبي البشر جميعاً عليه السلام. وهذه رواية تاريخية تحتمل الصحة أو الزيف والله أعلم، لكن فعل الترجمة قديم قدم الحضارة الإنسانية نفسها، ولا تزال مهنة ومهارة ليس باستطاعة مجتمع أو دولة بمؤسساتها الاستغناء عنها أو إهمالها، بدءاً بزعماء الدول، مروراً بالجامعات والمؤسسات الأكاديمية والثقافية، وانتهاء بأفراد المجتمع على اختلاف أغراضهم وشئونهم. والناس في الغالب وفي أكثر المجتمعات ينظرون إلى هذه المهنة على أنها ترجمة الكلمات إلى ما يقابلها في اللغة الأخرى، وهي بهذا لا تتطلب مهارة أو سعة اطلاع كبيرة وهنا منشأ تلك النظرة القاصرة لمهنة الترجمة ومصاعبها.
ونعلم أن لكل أمة ثقافة وفكراً وحضارة تتفاوت حسب إنجازات هذه الأمة أو تلك، العربة التي تنقل تلك الحضارة من محطة إلى أخرى عبر العصور هي اللغة، تتفاعل وتتواصل مع باقي المجتمعات البشرية عن طريق لغتها. وقوة لغة وثراؤها وعمقها من ثراء وعراقة وحضارة الناطقين بها، يخضعون لدورات الصعود والهبوط الحضارية وهذه سنة الله في خلقه. لذلك فليس من السهل نقل الكلام والترجمة بمجرد انتقاء ما يقابل الكلمات من اللغة الأخرى،فلابد من اعتبار الاختلافات الفكرية والثقافية حتى لا تكون الترجمة حرفية بلا نقل للمعنى الفعلي للكلام. هناك مقولة عند الناطقين بالإنجليزية (ضع نفسك في حذائي)، ولو نقلها المترجم بحذافيرها إلى المستمع العربي لعدها إهانة كبيرة، لكن المترجم المتمكن الحائز على القدر المطلوب من الثقافة والاطلاع فيما يخص اللغة التي يترجم منها وإليها خصوصاً، وما يخص الثقافة العامة عموما يترجم الفكرة وليس الكلمات بحذافيرها فيقول (ضع نفسك مكاني) كترجمة لمعنى العبارة السابقة. أنتمي إلى قبيلة المترجمين كتخصص ومهنة، وأجزم أنها شاقة لجهة إيصال الفكرة والمعنى دون الوقوع في شرك التزام الكلمات بحذافيرها فبعض النصوص تستهلك المترجم ذهنياً ونفسياً لتتم صياغة معانيها بتمكن واقتدار.
«تحدي الترجمة»، هذه المبادرة التي أطلقها رئيس الوزراء في دولة الإمارات الشقيقة الشيخ محمد بن راشد، لترجمة خمسة آلاف محتوى فيديو في العلوم والرياضيات، وما مجموعه أحد عشر مليون كلمة لخدمة خمسين مليون طالب عربي، مبادرة تبعث على الفخر ليس للإماراتيين فحسب، بل لكل خليجي وعربي في الحقيقة. ذلك أن الترجمة هي ما بوأت الحضارة العربية الإسلامية تلك المكانة زمن العباسيين ومن بعدهم، حين ترجم العرب العلوم والفكر والفلسفة الإغريقية والرومانية، فأبدعوا وبنوا عليها وتطورت الحضارة العربية واحتلت المقدمة، وأنقذوا تلك العلوم من الضياع في حين كان الغرب يغط في ظلام الجهل والتخلف، ثم أخذوا ما ترجمه العرب فكان أن بنوا عليه وطوروه فتقدموا اليوم. وحقاً أعطت كلمة الشيخ محمد هذه المبادرة عمقها وبعدها الحضاريين، حين قال إنه لابد من الترجمة لعودة النهضة الحضارية العربية. هذه المبادرات وأمثالها تعطي القوة (الناعمة) لبلداننا الخليجية وتثبت أنها ليست مجرد دول نفط فحسب،كما يحلو لمعاديها أن يرددوا،والنفع للعرب عموما كي تعود الى وضعها السوي واستقرارها وقوتها.