حمّاد السالمي
- وكيف لا يكون وطني على حق دائمًا؛ وهو الذي ليس لي حياة بدونه بعد الله -عز وجلّ-، وهو الذي تقلني أرضه، وتظلني سماؤه، ويلفني أمنه وسلامه، وتحفني خيراته، ويضمني ثراه الطاهر بعد الممات.
- ومن الحق في يوم وطني جميل كهذا؛ أن نسدي الشكر تلو الشكر؛ لمن هو سبب بعد الله -عز وجلّ-، في تأسيس الكيان، وتوحيد الإنسان، وإعلاء البنيان. الشكر لمن يستحق الشكر كل يوم وليلة، جلالة الملك المؤسس والموحد: (الملك عبد العزيز آل سعود) -طيب الله ثراه-.
- مما يُنسب لشعراء العرب القدامى قولهم: (وتُستعذب الأرض التي لا هوى بها.... ولا ماؤها عذب ولكنها وطن). كانت هذه أخلاق العرب، وكان هذا ضرباً من ضروب حبهم العظيم لديارهم، وولاءهم الكبير لأوطانهم. يستعذبون الأرض التي ولدوا وعاشوا فيها حتى لو لم يكن بها هواء ولا ماء؛ لمجرد أنها وطن..! فكيف بنا وأرضنا ماء عذب، وهواء عليل، وخضرة ونضرة، وعيش رغيد في حب وأمن وسلام.
- وما زلنا مع أعراب العرب. فقد قيل لأعرابي: أتشتاق إلى وطنك..؟ فماذا قال..؟ قال: كيف لا أشتاق إلى رملة كنت جنين ركامها، ورضيع غمامها..! ثم أردف:
وكنا ألفناها ولم تك مألفاً
وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن
كما تؤلف الأرض لم يطب بها
هواءٌ ولا ماءٌ.. ولكنها وطن
- ولكنها وطن.. لله در أجدادنا.. كم كانوا مخلصين لديارهم. أوفياء مع أرضهم وعرضهم. الأرض عرض المرء، وعنوان شرفه وكرامته، فحمايتها ورعايتها ودرء الأخطار عنها، واجب مقدس يلزم خاصة الناس وعامتهم، والتنصل من هذا الواجب خيانة وجحود، فكيف إذا تعدى الأمر؛ فوصل إلى التآمر على الوطن وأهله من بعض أهله..؟.
- أي جرم يمكن أن يلحق بمن يتخابر مع قوى معادية، ويتعاون مع دول متآمرة، ويدعم جماعات إرهابية، ويدور في دائر استخبارية، بهدف التشويش على وطنه، وتهديد أمن مجتمعه، وزعزعة استقرار بلاده..؟.
- تخيلت أن الشاعر الكبير ابن الرومي، قام من قبره في يوم وطني لبلادي، فشهد احتفالاتنا البهيجة، وشهد جموع المواطنين الذين راحوا يعبّرون عن فرحتهم المتجددة كل عام، فخفّ إلى ديار عرفها من قبل، ووجوه ألفها على أديمها، فهزه الشوق لأيام الصبا فيها، فقام مشاركًا وخطيبًا بيننا بالشعر كما هي عادته، ولكنه توقف فجأة متسائلاً: ما لي لا أرى من بينكم فلان وفلان وفلان من الناس..؟! وأخذ يُعدد أسماء عشرات ممن هم من أبناء هذا الوطن، فانتحى به أحدهم جانبًا، وراح يهمس في أذنه، ويوضح له ملابسات الأمر الجلل الذي غيّب هؤلاء المواطنين الذين سأل عنهم الشاعر، فإذا بشاعرنا قد تأفف وتأسف، ثم تغيّر وتمعّر، وتلفت يمنة ويسرة، وراح يتمتم في حزن، ويتلفظ بكلمات غير مسموعة ولا مفهومة، ثم قال فيما يشبه الدرس لمن به عقل في هذا الزمان:
ولي وطن آليت ألا أبيعه
وألّا أرى غيري له الدهر مالكًا
عهدت به شرخ الشباب ونعمة
كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا
وحبب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
فقد ألفته النفس حتى كأنه
لها جسد.. إن بان غودر هالكا
- ما أعظم الأوطان التي تسمو وتعلو بأبنائها المخلصين الأوفياء، وما أسعد الأبناء؛ الذين يمسون ويصبحون وهم شرفاء أحرار، في أحضان أرضهم الحنون الرؤوم، يباهون بها أمم الأرض كافة، ويفاخرون بها كل الأوطان.
- بناء الأوطان والذود عنها وحبها.. بل عشقها الأبدي؛ ليس كلامًا يردد في المناسبات. إنه إيمان حقيقي بروابط عميقة تجمع بين الإنسان والمكان ليس لها نظير في الوجود. عشق الأوطان الذي يتمكن من القلوب، ويجري في دماء المواطنين، ترسخه أفعالهم في حياتهم جيلًا بعد جيل. إن وطنًا لا يسكن قلوب أبنائه، ولا تبنيه سواعدهم، ولا تفديه أرواحهم، لهو مرتع للأجراء، ومخدع للخونة، ومطمع للطامعين الفجرة. ومن لا يغير على وطنه، ولا يستطيع حمايته، فهو لا يستحق العيش فيه. هذا للعاجز، أما الخائن والمتآمر، ومن يبيع ضميره، ويؤجر عقله، فهو من سقط الحياة، فمثل هؤلاء عادة؛ تلفظهم أوطانهم، ويمقتهم إخوانهم، ويبغضهم أهلهم.
- مثلما يعز المواطن بوطنه، فالوطن يعز بمواطنه. إن العلاقة بين الوطن والمواطن؛ علاقة أخلاقية سامية، وصلة إنسانية عالية، ليس فيها فقر ولا ضيم، وليس معها وهن ولا هوان.
في هوى الأوطان مقدرة
لذوي الأخلاق والفطن
أنت في فقر إذا افتقرت
وإذا استغنت فأنت غني
وإذا عزّت عززت بها
وإذا هانت فرُح فهُن