د. فهد صالح عبدالله السلطان
من يستعرض معظم الأمراض الاجتماعية والعملية لدينا يلاحظ أنها تعود إلى فيروس واحد مؤثر وخطير.
ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر الأمراض الاجتماعية والعملية المتمثلة في: تردي مستوى الإنتاجية في قطاعي الأعمال والحكومة، عدم انضباط الكثير منا في عمله وتذمر قطاع الأعمال من سلوك بعض العاملين السعوديين وعدم التزامهم وانضباطهم، عدم حضور بعض الطلبة للمدارس ودخول الفصل في الوقت المحدد، عدم انضباطنا في مأكلنا وفي طريقتنا الاستهلاكية وفي تعاملنا مع المرافق العامة، حركة المرور وتذمر المواطنين والمقيمين من سلوكنا في قيادة المركبات، عدم التزام الكثير منا بالمواعيد العملية والاجتماعية. عدم التقيد والالتزام بطوابير الأولوية، هناك الكثير من السلوكيات السلبية لدينا لا تمت من قريب ولا بعيد لشريعتنا وتعاليمها السمحة ولا لإرثنا الحضاري. الشيء اللافت للنظر أن ظاهرة عدم الانضباط تبدو ظاهرة وجلية في معظم إن لم يكن كل المجتمعات العربية. وربما أن ذلك يفسر تخلفها عن ركب الحضارة العالمية بالرغم من أنها تتمتع بموارد طبيعية تفوق ما تتمتع به المجتمعات التي سبقتها في مضمار الحضارة والتنمية.
في الواقع، عجزت الأنظمة أن تضبط سلوك الكثير منا وتمردهم على القوانين. (آمل ألا يؤخذ التعميم على إطلاقه). نادرًا ما تجد تذمرًا من مشكلة اجتماعية أو عملية أو حضارية إلا وتعود جذورها إلى غياب (الانضباط). ليس المقصود هنا الانضباط في الوقت ولكن الانضباط بمفهومه العام (Discipline)
كل هذا مع العلم بأن ديننا بما فيه من عبادات وسلوكيات بني أصلاً على الانضباط في كل الأمور سواء ما يتعلق بالأزمنة والتوقيت للفرائض والعبادات من صلاة وصيام وحج... الخ أو بالسلوك الاجتماعي أو العملي أو بالشكل والهيئة في الملبس وفي النظافة وفي الصف للصلاة وفي طريقة الاكل... الخ الانضباط في أدق التفاصيل حتى في لبس الحذاء وفي غير ذلك من الأمور العملية والاجتماعية والتعبدية. بل إن الشريعة بما فيها من سماحة جاءت بما يفيد بأن عدم الانضباط في العبادة قد يفضي إلى عدم قبولها أصلاً.
تم تسمية مسبب المرض هنا بالفيروس مجازًا لأنه يشبه الفيروس في أهم خصائصه وهو الانتقال من شخص إلى آخر سواء في محيط العائلة أو على مستوى المجتمع كله. هذا الفيروس هو عدم "الانضباط" Lack of Discipline)).
سئل السيد كوب كوبر الأمريكي الأصل الذي يعد اسطورة في مجال تحقيق النجاح والإنجازات عن أهم مبدأ للنجاح من بين المبادئ الألف التي أصلها في كتبه الأربعة عن مبادئ النجاح فأجاب: إن أهم مبدأ من مبادئ النجاح قد أوضحه ألبرت هوبارد وهو أكثر الكتاب غزارة في الإنتاج في تاريخ أمريكا إبان مطلع القرن العشرين، حيث قال: إنه الانضباط. وعرفه بأنه "القدرة على فعل ما يجب عليك فعله، حينما يجب عليك فعله، سواء كنت راغبًا فيه أو راغبًا عنه".
وفي دراسة أجريت على 11500 مليونير ومبدع عالمي أجاب 85 في المائة منهم أنهم لم يكونوا أفضل تعليمًا من أقرانهم أو أكثر ذكاء منهم ولكنهم كانوا أكثر انضباطًا وعزمًا على العمل من الآخرين.
وقد حاولت إسقاط ذلك على رجال الأعمال البارزين في المملكة وتلاحظ لي أنهم ليسوا بأكثر تعليمًا من غيرهم أو أكثر ذكاءً ولكنهم كانوا بالفعل أكثر انضباطًا وعصامية. معظم الكتاب والمحللين في مجال التنمية يؤكد أن نجاح اليابانيين في تحقيق معدلات عالية في الحضارة والإنتاج في فترة وجيزة يعود بالدرجة الأولى إلى الانضباط (Discipline). والشيء نفسه ينطبق على الكوريين والسنغافوريين وعلى المجتمعات المنتجة الأخرى.
اعتقد أن من أهم برامج التنمية البشرية لدينا الذي يجب أن يحتل أولوية قصوى هو زرع وبناء مبدأ وقيمة الانضباط لدى النشء في التربية والتعليم العام وتأصيل سلوك وشعيرة الانضباط في الخطاب الديني كخطب الجمعة والمواعظ وغيرها وتأصيل ذلك في التربية المنزلية وعلى مستوى الأسر. تصوروا لوكان لنا يومًا في السنة نسميه يوم الانضباط كم سنتمتع بقيادة السيارات وكم سنحفظ من دمعة أم بعودة ابنها سالمًا وكم سيسعد المربون والمعلمون في المدارس والجامعات من سلوكيات الطلبة وكم سيحقق أصحاب الأعمال من إنجازات وكم سيحقق الاقتصاد الوطني من نتائج إيجابية في ذلك اليوم.....الخ
ليس من المبالغة القول بأن نجاحنا كمجتمع وتقدمنا في سلم الحضارة العالمية وتحقيقنا لأهدافنا التنموية يعتمد بدرجة كبيرة على تأصيل هذا المبدأ وزرع هذه القيمة والثقافة لدى الجيل الصاعد.
فهل إلى ذلك من سبيل؟