د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** حين لا يشعر إنسان بحياته فهذا لا يعني موته، وعندما لا يكون في القمة فليس هذا دليلًا على انه في القاع، وإذ لا يستطيع الكتابة فقد يجيد القراءة، وبين الجنة والنار الأعراف، كما بين الحقيقة والخيال تراتبيات اليقين؛ علمًا وعينًا وحقًا.
** قد تصح هذه التوطئة ضمن سياق سيميائي مجرد، كما أنها واقعٌ مشاهد؛ فالاحتكام إلى منهج التعادلية بين متماثلين أو القسرية بين متعارضين لا يطَّرد، والخطيئة - على سبيل المثال - لا تُخرج المرء من دينه؛ فقد يسرق ويزني ويشرب الخمر ويظل على إيمانه، لكنه لا يكذب وقت تلبسه بالإيمان، وهنا محور مهم بين الثنائيات لا يقبل القسمة ولا يستجيب للتوازن، وإذن فقد أكون مؤمنًا وغير مؤمن في آنٍ واحد، غير أنني لا أصلح رياضيًا محترفًا حين أشجع ناديين متنافسين معًا؛ إذ «النصري» غير «الهلالي، و»البرشيُّ» خصم «المدريدي».
** ملعب التناقضات النفسية الإنسانية متسع كما المدى، ومعه تتسع القراءات كي تستوعب الثنائيات المتعانقة والمتضادة، ويبدو أن العالَم حولنا موقن بهذه الفرضية حيث يلتئم الخصوم وتجتمع الفضاءات وتبحر المراكب في كل الاتجاهات، وما يزال لدينا من تستغرقه الأحادية التي قد تفصل الأسرة الواحدة بسبب قصة شَعر أو سماع لحنٍ أو موقف من شخص أو نص، والصحوة المتعصبة كما الليبرالية الملوثة مارستا وتمارسان الإقصاء، واعيتين أو غير واعيتين بخطورة الثنائية العتيدة العنيدة: «التصنيف والتصنيم».
(2)
** لعل من أسباب هذا العناد الثقافي (بالإطار الأشمل للثقافة) افتقادَنا الرؤى العميقة والمرونة المؤصلة داخل المشهد الديني والمجتمعي، ويسندها الترويج للعامي والعادي والسائد واليسير والمباشر والإنشائي، وهو اتجاه أكثر وراقي المشرق العربي بخلاف ما يطرحه مفكرو المغرب العربي، كما أنه نطاق للسلفية التقليدية يخالف المنطق التنويري السني - الشيعي، والاتكاءُ على الطروح الشعبية ومخرجات الوسائط الرقمية سيدفعنا إلى مزيدٍ من التسطيح لا يواجه يومنا ولن يُعدّ لغدنا.
** هذا عامل مهم، وفي موازاته تجيء ازدواجية المعايير التي يرتكبها الصحويون والليبراليون على حدٍ سواء؛ فهم يمدحون ما يقدحون ويذمون ما يُقدرون لمجرد اختلاف رقم المقعد أو نوع المركب، ومن هللوا يومًا لحرق الآيات الشيطانية لسلمان رشدي في ميادين بعض العواصم ينددون بسحب كتابٍ لابن تيمية، ومن اتحدوا ضد محاكمة نصر أبو زيد يرفعون الرايات لتسطيح تآليف الغزالي، وهذان مثلان على ما يصنعه الهوى من تباينٍ علني وفق انتماءاتٍ وارتماءات.
** والمغزى الأهم هنا هو استعادة الدور الأخلاقي والمعرفي للمثقف الحقيقي الذي لا يأتسر لطائفية أو جهوية أو شعبوية أو انتفاعية بمنأى عن تجاذبات الواقع العربي وتداعيات أزماته؛ وللقارئ المتميز الذي لا يصبِّح يومه ويمسِّي ليله بتغريدة وتدوير ووسمٍ وتنويه، ولا شيء معها، كي لا يجد نفسه كما مجايليه، ولئلا ترتكس الأمة في قاعٍ لا قمة له ولا وسطية فيه.
** المتابَعة تبعية.