د.فوزية أبو خالد
.أحياناً يفكر الكاتب أنّ الكتابة بيد واحدة لا تكفي، وأحيانا يشعر الكاتب أن التفكير بعقل واحد لا يكفي، وربما لذلك كان المثل القائل التفكير بأكثر من عقل يثري الفكرة ويكون أقرب إلى التفكير، من خلال المواقع المختلفة في الواقع وعبر اتجاهات الفكر على تعددها واختلافها أو مشتركاتها .
وأحياناً أخرى يشعر الكاتب بالحاجة للوحدة، ليس فقط هرباً من وحشة العزلة الجماعية وصخب الحشد الانفرادي، ولكن أيضاً محاولة لأن يكون في صمته مثل ما هو مفترض في كلامه، مخلصاً حد التفاني لأمانة الكلمة ولقسم الضمير الذي هو في غلظة قسم أبقراط الطبي، ولا يقل غلظة عن القسم العسكري وقسم الشرف المكتوب أو المضمر لكل عمل نزيه يؤديه الإنسان نحو نفسه ومحيطه.
أفكر في هذه الحالات العميقة العريضة من حال كتّاب الرأي اليوم بهذه الكلمات القليلة، ليس من شح الكلمات ولا من قلة الحبر ولا من صغر ورقة الكتابة على الفكرة، وليس رأفة برؤوس الكُتّاب من احتكاك السقف بجماجمهم، ولكن اعترافاً عفوياً بسيطاً بتعقد الحالة على التحليل العقلاني.
كتابات الصدمة
فالكثير من كتابات اليوم في إطار هذا الوضع العربي المربك، وفي فراغاته المريعة وفي أوعيته الحبلى باحتمالات الألم والأمل معاً، تقع في عدة خانات أو مراحل من نموذج اليزابيث كيوبلر روث للصدمة الإنسانية حين تشل ملكات الفكر والعمل. ومع أنّ ذلك النموذج قد وضع لتشخيص الحالة ما بعد الصدمات الشخصية، فهو غير بعيد الشبه بردة فعل الصدمة الجمعية أو الوطنية أو العامة عموماً. فنجد أن الكثير من الكتابات في الشأن العام على مستوى عربي وليس محلي أو خليجي وحسب في الآونة الأخيرة خاصة, تتراوح بين كتابات الإنكار ما بعد الصدمة وكتابات المساومة وكتابات الاكتئاب. فما هي ماهية هذه الأنواع من كتابات ما نسميه مراحل الصدمة من انفجار الواقع وتعقيده وشراسته , سواء جاءت هذه الكتابات بوعي وعن سابق عمد وإصرار من كتّاب الرأي، أو جاءت عفو الخاطر، أو جاءت هروباً من مصير الاضطرار للتوقف عن الكتابة وقتياً أو نهائيا رحمة بالجهاز العصبي للكاتب والقراء، ورحمة بالجهاز الرقابي لأوعية الكتابة.؟؟؟
كتابات الإنكار
هناك أولاً من كتابات ما بعد الصدمة بحدية التحولات وعدم وجود حول أو قوة لكتابة الرأي أو المجتمع برمته تجاهها ما يمكن تسميته, بكتابات الإنكار ومثالها في صحفنا والصحف العربية ورقية وإلكترونية، هي تلك الكتابات المستمرة بنفس الإيقاع القديم ما قبل الصدمة أي صدمة التحولات الاجتياحية الجامحة في العالم العربي، على الأقل في المدى التاريخي من ما بعد 11 سبتمبر 2001، إلى التحشيد الإيراني المليشي الانعزالي، مروراً باندلاعات الربيع العربي وما تلاه من حرائق وحروب وفواجع عسكرية وسياسية وتسليم بواقع الهزيمة النهائية في الصراع العربي الإسرائيلي, وعودة الطاعون الطائفي والأمية من أوسع الأبواب .
فكتابات الإنكار لا ترى في الأحداث الجلل التي تمر بها المنطقة إلا محض عرض زائل يحدث بعيداً عنا ولسوانا، وإن كان يجري في مجرى دمنا وفي عقر دارنا، من زلزلة النظام العربي القديم ما بعد سيكسبيكو، إلى محاولات ترميم رممه وأهراماته أمام مزيد أو قليل من الانهيارات هنا وهناك . وحالة الإنكار التي يمارسها قطاع عريض من كتابات الرأي اليوم، لا تقف عند الكتابة عن شؤون وشجون محلية أو حتى دولية من الشئون الصغيرة أو الفضفاضة، فذلك لو لم يكن جزءاً من حالة إنكار أكبر، كان يمكن أن يكون من المتنفسات إلا أن خطورته أنه يعدو أن يكون جزءاً من حالة التقاط الأنفاس ليشكل حالة نكران مؤداها الميداني على مجالات كتابة الرأي قطع العلاقة من قريب وبعيد بمجرى الأحداث الدامي والدرامي معاً، مع شغل الرأي العام أو محاولة توريطه في حالة إنكار عام لواقع الصدمة وجسامة المتغيرات وأسبابها، وأي دور للمجتمع في الخروج عليها أو منها.
كتابات المساومة
هناك ثانياً كتابات تعبّر عن مرحلة أخرى بحسب نموذج كيوبلر بما بعد الصدمة / شخصية أو عامة، وهي كتابات الرأي الواقعة في حالة المساومة لما بعد الصدمة. وهي كتابات رأي مموهة فهي تكتب في قلب الزلزال عن الأمل فيما هي بعيدة كل البعد عن تشخيص أو حتى التقاط إشارات ما يعتصر محيطها القريب والإقليمي من ألم . هي كتابة رأي عن الأحلام الفارهة بعيداً عما يلاحق المجتمع العربي من كوابيس النوم والصحو والليل والنهار المعيقة. وهي كتابات وإن تغنت بالحرية لا تستطيع أن تخفي ما يعتورها من كبت وحرمان وتيه، إلا بمحاولة المساواة مع ما تظنه القوى المسببة للصدمة ومقابلها النقيض، وهي القوى التي تظنها الأقدر على رد قدر الصدمة بإعادة عقارب الساعة لما قبل واقع المصيبة التي تسببت في الصدمة أو تسرع الوقت لما بعدها، لريثما تقضى بعض الأوطار الخاصة أو العامة، كأن يتمنى مصاب بسرطان في مرحلة المساومة ما بعد الصدمة أن يمتد به الأجل لريثما ينجز هذا أو ذاك من الآمال , أن يربي الأبناء أن يكتب كتاباً ..، الخ . وكلها بشقيها الشخصي في مثاله السابق أو بشقها العام الذي أترك أمثلته لاستنباط القارئ وذكائه السياسي أحلام مشروعة لكن يصعب منالها ما لم يجر تناولها من خلال معالجة الواقع المنتج للصدمة، وليس من خلال موقف مساومة الصدمة على أمانٍ ذاتية أو عامة آنية.
كتابات الاكتئاب
هناك ثالثاً وليس أخيراً مرحلة الاكتئاب لما بعد الصدمة في مثال موضوع هذا المقال المحوري عن حالة كتابات الرأي. وهي كتابات قد تجنح لليأس أو للانسحاب فتحضر كتابات رأي بائسة أو باهتة وكأنها غائمة وأحياناً، يكون حضورها تعبيراً عن غياب أعمق لبوصلة الكتابة ووهجها الذي بدونه تفقد الكتابة معناها ومبناها فتقع كتابات الرأي من هذا النوع في لزوم ما لا يلزم.
رهان كتابات الرأي وأمانة الكلمة
طبعاً قد يدخل مع الأسف في خانة كتابات الرأي من نوع لزوم ما لا يلزم وضره أكثر من عدمه، كتابات التمجيد المجاني وكتابات التطمين التسكيني الإدماني وكتابات تصفيات الحسابات القديمة والمستجدة وكتابات التشفي وكتابات الاستعداء وكتابات التحشيد، ومقابلها كتابات التصفير وأنواع مفزعة من كتبات مكارثية وتفتيشية بين الأطراف الحدية من اليسار الهش إلى اليمين الصلد بمعناهما السياسي والأيدولوجي المستتر أو الواضح . غير أن رهان هذا المقال هو البحث عن كتابات رأي لا تقول الكلمة فيها لصاحبها دعني سواء جاءت في تغريدة أو في مقال أو كتاب.
شكراً لرئيس التحرير الذي لولا تحديه لكنت الآن في عداد كتابات الرأي الغائبة تماماً أو الحاضرة وهي غائبة.