د. خيرية السقاف
وهي تتجه إلى الجامعة, حيث تلتقي وجوهاً غامرة بالفرح لأول يوم ينعتقن فيه من زي المدرسة ذي اللون الرمادي, الأزرق الداكن, والحذاء المنبسط, والشَّعر المضفور في جديلة أو اثنتين تلقى خلف الرأس, بلا مسحة للون في الشفاه, ولا شذى عطر في الإهاب..
تلتقيها غامرة بالفرح قد تزيَنَّ, وتتعطرن, يستطلن بأحذية ذات كعوب عالية, ملونة يشبهن الفراشات, كأنهن في ملكوت فضاء محلقات, يطوين في أيديهن حقائبهن الصغيرة, وأوراقهن المنتقاة, ينطلقن بحرية نحو فسحات, هذه الجامعة العريقة الكبيرة ..
وهي في الطريق الممتد إليها من الحي الشرقي في المدينة الكبيرة للجنوب منها حيث تقف أعمدة جدرانها شامخة, وفي ركنها الجنوبي منارة مسجد, قيل في تلك الأيام إنه لم يَعُد للاستخدام, بعد أن غادره «الرجال» لأنّ «البنات» يصلين بلا مؤذن, وبالتالي فلا حاجة للمنارة فيه !! تأخذها عشرات الأفكار في مراكبها, تُبحر بها نحوهن, كم من الطموح في صدورهن, وكم من الأحلام في رؤوسهن ؟!, وكيف من السبل لغرسها وسقياها, فنموها وإثمارها؟!..
تلك مفردات لكل حركة تدب بها أقدامهن في ممراتها الكثيرة, وساحاتها الشاسعة, بين مكاتبها, وعند مسؤولاتها, وأقسامها..
تلك البهجة المنطلقة من جوفهن تضفي حياة أخرى في نفسها, كم كانت لغة التفكير ثرية بمفرداتها, كثيفة بقوائمها, مزدحمة بمضامينها, هؤلاء في الجامعة ماذا يردن..؟ وهذه الجامعة لهن ما الذي تفعله حين الجامعة هي, وتلك, وهو, والنظام, والمقررات, المحاضرة, المكتبة, والتدريس, القاعات, والخطط, البحث, والمختبر, التدريب, والخبرة, الصياغة, والتكوين, الصناعة في البداية, والكفاية في النتيجة, والحصاد في الخلاصة, ..
مفردات الأفكار تترى, تتعاقب بعنوة وهي في طريقها الطويل غير المنساب كأنها العثرات التي تتراكم داخل أسوارها هذه الجامعة في ذلك الوقت, وهي تتخيل تلك البهجة الغامرة في وجوههن, الطافحة في ركضهن من حيز لآخر داخل أسوارها بين مكاتبها, وقاعاتها, المصغية للألف حتى الياء في مكنون ما يكون لهن فيها, من أول ثانية لآخر ثانية في زمن وجودهن داخلها..
وماذا بعد؟!..
في طريق عودتها لدارها بعد أن تغادر بوابتها البيضاء الواسعة, تضع نفسها داخل عربتها, وفي الاتجاه المعاكس حين الصباح كان يأخذها إليهن, تعود مفردات الأفكار تفتح خزينتها, وتتوالى في المثول بين يديها في صيغة أسئلة: ما الذي سجله اليوم في سجلك؟ أيتها الحالمة بصناعة الإنسان فيهن؟!..
تلك الرؤوس اللدنة هل قويت..؟
وتلك الأحلام الصغيرة هل كبرت, وستكبر؟!
أو إنها اضمحلت؟!, وستتبخر, أو هي استوت صقوراً ذات أجنحة وقدرة..؟!
الشريط يعود بعودة الدراسة أمس الأول,
وهو في طريقه إليها, مرَّ بها, ألقى عليها تحية اليوم, ثم غادر للجامعة..
اليوم ذاته الذي كانت في مثل مكانه اليوم, وهن, وهم معه يتجهون إليها , إلى الجامعة وقد كبرت كثيراً, وشاخت أعمدتها, وضربت جذورها في البعيد, وتضاعفت الأحلام في الرؤوس, والأماني في الصدور, وارتفعت سُقُفها..
ما الذي يفعله الطريق من البيت إلى بوابة الدخول إليها في الذين حلوا بهؤلاء بعد أن رحلت هي, وهم, وهن؟!
هل أسراب الأفكار تأخذهم لمراكبها كالتي كانت تفعل بها, ترافقهم الطريق, وتتوالد المفردات
وتبحر بهم بعد بنهج يواكب المستجد, وفضاءات التغيير من حولهم؟!
:
الشريط طويل, طويل, فيه المفردات لغات, والجُملُ غابات, وبحور!..
وماذا بعد؟!
يبدأ السؤال الكبير الذي يكبر.. ويكبر.. ويكبر!!