د.عبد الرحمن الحبيب
تعاني الثقافة العربية من فكر حركات سياسية لديها إيديولوجيات خيالية تعيش حالة «انفصام» زماني، و«إنكار» مكاني، برفض الاعتراف بدولها الوطنية الموجودة التي تشكلت واقعياً وفقاً لظروفها المحلية، مقابل إيمانها بدولة أممية وهمية (دينية، أو قومية) عبر توظيف انتقائي للتاريخ وللأزمات الراهنة.
هذه الحركات ليست مشكلتها مع أداء الدولة الوطنية كما قد يظن كثيرون، بل إنها ترفض شرعيتها بالمطلق مهما كانت هذه الدولة ناجحة، لكنها لا تُظهر خطابها بفجاجة مباشرة أمام الإعلام، بل تطرحه مواربة مثل استخدام عبارات تتجنب إطلاق اسم الدولة الوطنية مستخدمة أسماء أخرى، مثل «قُطُر» أو منطقة جغرافية طبيعية غير سياسية.. أما أكثر الاستخدامات فهو مُسمى «الأمة» بمعناه السياسي الحاكمي وليس المجازي العام، والترويج له من أجل إزاحة مفهوم «الدولة الوطنية» القائمة ونقد مشاريعها ومهاجمتها في المحافل والمنتديات.
هذا ليس تأويلاً لنصوص غير واضحة، فهذه الحركات تعلن مباشرة في أدبياتها (كتب، مواقع إنترنت..) رفضها القاطع لشرعية الدولة الوطنية. هناك خطابان مزدوجان لهذه الحركات؛ الأول للإعلام (الخطاب الناعم)، والثاني في أدبياتها المعلنة (الإيديولوجيا الخشنة).. وعلى التحليل الموضوعي أخذ كليهما معاً. سأطرح مثالاً حيَّاً لأكثر هذه الحركات نشاطاً، وهي جماعة «الإخوان المسلمين».
قبل أيام ألقى عمرو دراج (قيادي بارز بهذه الجماعة)، خطاباً بجامعة جورجتاون وهي جامعة أمريكية مرموقة بواشنطن، وظل يسعى لمقابلة أعضاء بالكونجرس كجزء من حملة ضغط دأبت الجماعة على ممارسته ضد دول الشرق الأوسط باستثناء التي على وفاق معها.. فدراج ظهر مريحاً للغربيين حليق الوجه مرتدياً بدلة إفرنجية كاملة وأنيقة.. وقبل ذلك حاصل على دكتوراه الهندسة من جامعة بوردو.. سنرى كيف أن هذا للإعلام والتسويق الدعائي (الأسلوب الناعم)..
كان دراج وزيراً للتعاون الدولي خلال الفترة القصيرة لحكومة الإخوان برئاسة محمد مرسي، ومن أشد أعضائها إصراراً لاستحواذ الإخوان على مؤسسات الدولة المصرية، خاصة دوره الرئيسي في الصياغة والتصديق على دستور إقصائي سبَّب التعبئة الشعبية والمؤسساتية ضد حكومة الإخوان والإطاحة بها. بعدها هرب دراج إلى قطر، ثم إلى تركيا وأسس «المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية».. وأعلن العام الماضي اعتزاله العمل السياسي «للتفرغ للبحث والدراسة التي تحتاجها الأمة» كما كتب في تغريداته.. وهذا المعهد يُعرِّف نفسه بأنه مركز فكري للدراسات العلمية.
حتى الآن لا تظهر مشكلة حقيقية فيمن اعتزل العمل السياسي متفرغاً للبحث العلمي، كما يقول. إنما لو فحصنا أدبيات هذا المعهد سنجد أنه يروِّج للعنف المُنظم (الإيديولوجيا الخشنة).. سأطرح بعض الأمثلة: في أحد مقالات المعهد يقول أحد الكُتَّاب: «إن الجهاد إلزامي لإنهاء الفتنة والشرك والكفر على الأرض..»؛ وبمقال لكاتب آخر يفسر أحد أعضاء «الإخوان» الجهاد على أنه «كفاح شامل للجميع بل عنيف ضد الاستبداد..» قاصدا بذلك الدولة المصرية. وفي موضع آخر يعيد أحدهم تأكيد كتابات الشيخ محمد الغزالي مدافعاً عن «الواجب المقدس للنضال بالجهاد ضد أي نظام لا يتماشى مع تعاليم الإسلام..».
ما هي أهم تعاليم الإسلام بالنسبة للإخوان؟ هي إقامة دولة «الخلافة». ولأن ذلك يبدو غير واقعي، فالجماعة تستخدم مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة»، ممارسة كافة الأساليب، سواءً بتكفير الدولة والمجتمع لتبرير العمليات الإرهابية، أو بتأجيج المشاعر الطائفية لإشاعة الفوضى والعنف، أو بوسائل ناعمة من حملات إعلامية مضادة للدولة.. المهم، حسب أدبياتهم، تهيئة السبل لتفكيك الدولة الوطنية وإسقاطها، من أجل إقامة دولة عالمية تسيطر عليها الجماعة الإخوانية..
لكن هذه الحرب عبثية لا يقبلها عقل أي إنسان تحاول الجماعة تجنيده، لذا فإنها تقوم بالتكتيك السياسي «التُقية» بإظهار قبولها الشكلي بالدولة الوطنية مرحلياً، دون أن تعترف بها صراحة، مقابل استخدام كافة الحجج الفكرية لتقويض مفهوم «الدولة الوطنية»، مثل إقناع المجندين فكرياً بأن كل الدول المسلمة هي كافرة قامت وفق «نظرية المؤامرة» مع الغرب الكافر بعد نهاية الاستعمار؛ ومن ثم يتم نزع شرعية الدولة الوطنية من عقول الشباب المهيئين للتجنيد في صفوف الجماعة، فـ«الوطنية» كفر، ولا ولاء للدولة الوطنية عبر عقيدة «الولاء والبراء» المعروفة، وينبغي السعي لإسقاطها بأية وسيلة ممكنة؛ ويستثنون من ذلك «ولاية الفقيه» في إيران لأنها تتماشى مع إيديولوجيتهم ومنهجهم، فدستور ولاية الفقيه يقوم على تصدير الثورة وليس بناء الدولة الوطنية.. كما يستثنون، حالياً، الدول التي تدعمهم وتتيح لهم المنابر والمؤسسات كقطر وتركيا.
ورغم أن الواقع يشهد باستحالة إقامة تلك الدولة العالمية الإخوانية، فإن إيديولوجية الإخوان لا ترى الواقع بل لديها رؤية خيالية بحتمية انتصارها «الرباني»، ومواجهة كل دولة أو نظام أو مجموعة أو أفراد يخالف هذه الرؤية. ومن هنا، فإن المطالب التي تعلنها هذه الجماعات من تحسين الأوضاع المعيشية كالصحة والتعليم أو الإصلاح الاقتصادي، ليس هدفها النقد البناء والإصلاح، بل الهدم والتقويض لأنه يأتي في سلسلة مندمجة مع التشكيك بشرعية الدولة الوطنية، وتبرير الخروج عليها بالقوة متى سنحت الفرصة.. هذه الإيديولوجية يزعجها أي إصلاح يقوي من بنيان الدولة ويثبت استقرارها وازدهارها لأنه يُبعد مطامح الجماعة الإخوانية في الاستحواذ على السلطة.