طارق بن سعد القرني
غابت شمس الحقيقة عن كثير منا فبدا له الواقع مظلمًا تعيسًا لا يكاد يُرى، يسير وكأنه متوقف ينتظر البدء في المسير؛ قد تكون هذه مغالطة لغوية لكنها حقيقة واقعية!
إن البحث عن الذات ليس أمرًا هينًا كما يتصوره البعض، أمرٌ معقدٌ جدًا، يحتاج إلى صبر ومكابدة، والأهم من ذلك أنه يحتاج إلى الصدق والجرأة، وهذه الصفات إن بدت مقبولة وسهلة في شكلها الظاهري إلا أنها عزيزة عند التطبيق والممارسة.
لا يمكن بناء العقد الاجتماعي ما لم تكن النفس الفردية متقبلة لهذا العقد وبنائه، وإن مشاكل من قبيل المصلحة الفردية والأنوية لا يمكن أن تصنع جيلًا واعيًا يفكر في غيره كما يفكر في نفسه، ومن عقبات ذلك الانتقال من النفس إلى المجتمع ذلك الموروث التعليمي (التعليم بمعناه الشامل) الذي تشربه المجتمع من خلال بث القيم الفردية وإهمال القيم الاجتماعية، حتى الدورات التنموية التي يحرص الكثير على الالتحاق بها هي في حقيقتها ممثل واضح للنزعة الفردية التي ينتهجها الكثير من أجل الوصول إلى مصالحه الفردية، ولا إشكال في ذلك؛ أقصد لا إشكال في أن يفكر الفرد في تطوير ذاته وقدراتها، لكن التركيز التام على القيم الفردية يجعلنا ننسى القيم الاجتماعية التي هي الأساس من العقد الاجتماعي؛ بل هي السبب في تسميتنا بـ(مجتمع)!
إن الفرد الذي لا يتعود و(يتربى) على القيم الاجتماعية يصبح فردًا خطيرًا في النظام الاجتماعي، لا يرى إلا ما يقتنع به، ولا يسمع إلا صوته، ولا ينفذ إلا أمره، ولا يكترث إلا لهمه، لا يبالي بغيره حتى وإن تضرر وكان ضرره بالغًا، بعبارة أخرى؛ يبدأ بتكوين أيدلويجيا خاصة به!، وبعد نضوج هذه الأيدلوجيا الخاصة به يتشكل من حوله مجموعة من الأفراد المشاركين له طريقة التفكير، وبحسب ذكائه وقدرته على التواصل يكون مجموع أتباعه، وبهذا يتكون التيار الأيدلوجي الذي لاتُعلم نهايته، ولا يعرف منهجه!
تتكون التيارات الفكرية حينما تغيب الرؤية الاجتماعية، ولا بد لنا ونحن في زمن الرؤية المستقبلية أن ننتهج رؤى اجتماعية توحد الناس وتجمعهم وتقرب آراءهم قدر الإمكان، ولا أدعي أن ذلك أمر هين، لكن مع الوقت ومجاوزة كثير من التفاصيل الدقيقة، والاتهامات المتكررة التي لا مبرر لها، سنصل إلى ذلك حتمًا ولو بنسبة كبيرة، ولا أقول بتمام الفكرة وشمولها الجميع، والبعد قدر المستطاع عن المواضيع التي تطرق لها الكثير في السابق كفكرة توحيد المجتمع بالدين أو الوطنية أو العلم لأن الأيدلوجيا الفردية، والتأويل التياري سيجعلها بلا قيمة تعبوية، لكن الاتجاه إلى تكريس معنى الأخلاق كأساس للعقد الاجتماعي بمفهومها المتفق عليه - ولو مبدئيًا - سيجعل التقارب ممكنًا، والأخلاق جامعة لكل خير نود الوصول إليه، فمن خلالها سينشئ جيل على كثير من المكارم كمحبة الخير للجميع، والكرم ولو بالابتسامة، وصيانة الأماكن العامة، واحترام المواعيد، والإخلاص في العمل، والأمانة مع الغير، وعدم الخوض في أعراض الناس وخصوصياتهم، والنصح القائم على السرية والمعاونة، وإظهار المجتمع بأفضل صورة للآخرين، وغيرها من الأخلاق التي أكد الدين الإسلامي عليها، وتربى الجيل الذي أسس هذا الوطن عليها، وهو الجيل الذي عاش في زمن (ما قبل التيارات)!
من نحن؟!
هذا السؤال العميق يجعلنا نفكر كثيرًا قبل تقديم أنفسنا للآخر، يجعلنا نفكر في حقيقة تراثنا وتاريخنا وعمقنا الزمني، يجعلنا نفكر في ارتباطنا كبشر بالأرض التي نعيش فوقها، يجعلنا نخطط للمستقبل على أساس اجتماعي عام، لا على أساس النزعة الفردية.
طارق بن سعد القرني