علي الصراف
ما من دولة أيديولوجية إلا وسقطت. وما من دولة اتخذت من الأيديولوجيا سراجاً إلا وأظلمت على نفسها. وما من دولة جنّدت نفسها لتكون سقفاً لحركة سياسية أو حزبية إلا وانهار السقف على رأسها.
والحال، فإنه ما كان أكبر ولا أعظم من الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية. وكان سقوطهما درساً مدوياً لكل أصحاب المشاريع الأيديولوجية، ربما ليعلمهم شيئاً واحداً، ولكن لم يفهموه أبداً، وهو أن «شجرة الحياة خضراء دائماً، بينما النظرية رمادية دائماً»!
والحياة تتبدل. وشروط العيش فيها تتغير. وتوازناتها تتمايل. والقوى الفاعلة فيها بين صاعد ونازل. وتعيش الشعوب والأمم بما توفره لنفسها من قدرة على التكيف مع ما يتغير. وغالباً ما تكون الأيديولوجيا عائقاً وحجر عثرة. ولكن ليس لأنها رؤية متصلبة، بل لأنها (بطبيعتها) تنظر إلى العالم من ثقب إبرة. وهو ثقب لا يرى شيئاً. يحد من البصر، ويعمي البصيرة أيضاً.
لقد كانت دولة البعث، في عالمنا العربي آخر الدول الأيديولوجية، فانظر إلى ما آلت إليه، في العراق وفي سوريا على حد سواء. ولئن ما زالت هناك بقايا من تصورات أيديولوجية ممزقة تتناثر هنا وهناك، إلا أنها لم تثبت إلا فشلاً وعزلة وعجزاً.
هناك سبب مهم يقف وراء هذه الحال. هو أن تجنيد الإمكانات لخدمة مشروع أيديولوجي، أو تصور سياسي، يمثل نوعاً من خسارة مضاعفة ومتسارعة بالنسبة لأي دولة.
عندما تكون حركة، يمكنك أن تفعل ما تشاء، وأن تقول ما تشاء. ولكن عندما يطال الأمر كيان الدولة، فإنه عادة ما ينتهي الأمر بانهيارها وخسارة الحركة معاً. وهذا ما يحصل بالفعل مع دول مثل إيران وفنزويلا. تحديداً، لأنها لا تمارس السياسة كدولة، ولأنها تمارس الأيديولوجية كحركة.
أنظر إلى الأمر من زاوية حسابية، وستعرف حجم الكلفة. لديك مليار دولار يبدو زائداً على جيوب الدولة. يمكنها أن تبني به مشروعاً تنموياً، كما يمكنها أن تمول به مشروعاً سياسياً. فماذا يحصل عندما تتبدل المعطيات؟ المشروع التنموي يبقى، والمشروع السياسي لن يجر وراءه إلا خسارة المليار زائداً خيبة الأمل، زائداً عواقب الفشل وتبعاته. وهذه الأخيرة غالباً ما تشبه هزة أرضية ارتدادية. فإذا نجوت من الأولى، أجهزت عليك الثانية.
ويكاد العاقل يصرخ بوجه الحمار الأيديولوجي الذي يعترض الطريق: المعطيات تبدلت. والربيع الذي كنت ترغب أن ترتع به تحوّل إلى مأساة ومجزرة. والدول التي كنت ترغب بهدمها راسخة. ولسوف تدعسك عرباتها إذا جاءت مسرعة. وهي تتباطأ الآن، عطفاً ورأفةً.
فسوى خانة الحماقة الخالصة، أين يمكن أن تضع أولئك الذين يُسخّرون إمكانات دولهم لخدمة مشاريع حزبية؟ وسوى الخسارة الخالصة، أين يمكن أن تضع أولئك الذين يراهنون بدولهم وكأنهم على طاولة قمار؟ وسوى الخذلان، المعروف والمُجرب، أين يمكن أن تضع أي دولة تجند إمكاناتها لتتحول من نظام مؤسسي إلى حزب، ومن كيان راسخ إلى كيان هلامي فضفاض تعصف به رياح التبدلات.
وببساطة: أن تسوس دولة شيء، وأن تسوس حزباً شيء آخر. فإذا وضعت حزباً أو تصوراً أيديولوجياً أو مشروعاً سياسياً فوق بنيان ومصالح الدولة، فكأنك تجلب حماراً ليدفع العربة من الخلف.
الآن، ماذا تقول لأولئك الذين يجندون إمكاناتهم لدعم التطرف وتمويل الخراب؟
أليس الخراب بهم أولى؟ (إذ يجروه لأنفسهم جراً).
وأين تضع «مُنظريهم»، وهم ليسوا سوى «منظرين» سطحيين ومهزلة حيال مُنظري «الكتلة السوفياتية» الساقطة؟
وما هي كلفة المسخرة التي تسخرها منهم شجرةُ الحياة المُزهرة؟