د. فهد صالح عبدالله السلطان
لم تكتمل سعادتي وأنا أحتفل بنفاد نسخ كتابي الأخير « مفاتيح النجاح « بعدما اكتشفت أنني أخطأت في حق نفسي وحق القراء وادركت أنه كان علي أن أكتب عن مفاتيح الفلاح بدلا من مفاتيح النجاح، وإن كان النجاح مطلبا.. فعلى الرغم من أن الكتاب لقي حضورا واسعا وكان واحدا من أكثر الكتب مبيعا في معرض الرياض للعام 2015 إلا أنني أتمنى لو عاد بي الزمن لكتبت شيئا مختلفا.. على كل حال لم يعد الاعتذار مقبولا في وقت متأخر كهذا، وليس هذا هو المهم الآن. نعم لقد ادركت أخيرا وبعد مراجعة للمفاهيم وللغايات أن لدينا هدفا أكبر وأهم من النجاح سواء على مستوى الأفراد أو المنظمات أو المجتمعات أو الدول. ومن الغريب في الأمر أن النجاح كلفظ لم يرد كثيرا في لغتنا العربية العظيمة بل لم يرد إطلاقا في محكم التنزيل. وعلى الرغم من أننا نعدّ النجاح هدفاً سامياً نعلق عليه طموحاتنا لأنفسنا وآمالنا فيمن نعول إلا أنه لا يمكن عده هدفا نهائيا أو غاية بل هو في واقع الأمر هدف جزئي مرحلي كالانتصار في المعركة الذي قد يؤدي أو لا يؤدي إلى النصر في الحرب أو النجاح في مرحلة دراسية قد يفضي إلى رسوب في المرحلة التي تليها، أو الفوز في شوط من مباراة قد يؤول إلى خسارة المباراة كلها.
الذي أردت أن أصل إليه هو أن هدفنا يجب أن يتركز على الفلاح لا على النجاح وهو (الفلاح) أسمى وأعلى درجة وأكثر قيمة. فالفلاح غاية تتعدى الأهداف المادية المرحلية وتسمو في الأفراد والمجتمعات إلى آفاق العلو والرفعة والعزة والسعادة في الدارين. وقد تم ربطه في القرآن الكريم بالتقوى وجعله نتيجة وغاية يحصل عليها أهل التقوى التي هي وصية الله للأولين والآخرين «{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ} (131) سورة النساء.
وفي القرآن الكريم آيات عدة آيات تدل على أن الفلاح نتيجة حتمية للتقوى»...واتقو الله لعلكم تفلحون» البقرة 189، « يا أيها الذين آمنو اصبروا وصابروا ورابطوا واتقو الله لعلكم تفلحون» آل عمران200 والآيات في ذلك كثيرة. وفي مواضع أخرى من القرآن الكريم ذكر الفلاح نتيجة للأعمال الصالحة العظيمة الأخرى كذكر الله « واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون» الأنفال45 ، الجمعة 10.
تحقيق الفلاح على مستوى منظماتنا الاقتصادية هدف وغاية وهو أسمى من النتائج الاقتصادية المرحلية والتي لا يتعارض معها أصلا.. عندما أسس ماتسوشيتا شركة باناسونيك في منتصف الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي كتب رؤية هذه الشركة بأن هدفها وغايتها هي خدمة البشرية في إيصال الأخبار والمعلومات الهامة.. وعندما أسس فورد ومجموعة معه شركة سيارات في نهاية القرن التاسع عشر طالب في مجلس الإدارة أن تتضمن رسالة الشركة أن تعمل الشركة على صناعة سيارات يتمكن من شرائها متوسطي الدخل حتى وإن لم تكن صناعتها مربحة وأن لا تقتصر منتجات الشركة على إيجاد سيارات للطبقة الارستقراطية الأمر الذي أسخط عليه شركاؤه والذين رفضوا مطلبه مما اضطره إلى تأسيس شركة باسمه سماها شركة فورد ونجحت نجاها مبهرا حتى أطلق عليه في عصره لقب العبقري. يلاحظ أن طموح المؤسسين في كلا الرؤيتين تعدى الهدف الاقتصادي الضيق. ومع أنه كان لدى كل من الرائدين (ماتسوشيتا وفورد) أهدافا إنسانية إلا أن شركتاهما حققتا نتائج اقتصادية وربحية هائلة.. ربما بسبب حسن النوايا.
ماذا لو زرعنا في النشء وفي شباب أمتنا ثقافة الطموح للفلاح وليس مجرد الرغبة في النجاح!، ماذا لو تضمنت رؤيتنا لشركاتنا أهدافا تسمو وتتعدى الأهداف الربحية، ماذا لو تضمنت رؤيتنا الوطنية الجميلة أن نكون مصدر إشعاع للبشرية ومركزاً لتنويرها بنور الهدى والسلام والإسلام ومركزاً لتصدير المعرفة لا محطة لتزويدها بالوقود. صدقوني سنحقق الفلاح لنا ولأبنائنا ولشركاتنا ولوطننا الغالي وللبشرية أجمع وسيكون النجاح مرحلة طبيعية مكتسبة.
قد يقول البعض إن هذا ضرب من الخيال والتنظير.. ولكن الواقع أن الطموح ليس له حدود، وسمو الغاية دليل على علو الهمة.. يجب أن لا يكون موقعنا الحالي في الخريطة العالمية عائقا لنا عن تحقيق طموحاتنا سواء على مستوى الفرد أو المنظمة أو المجتمع كله. يقال: «ليس المهم المكان الذي أنت فيه ولكن الأهم هو الهدف الذي تطمح في الوصول إليه».
عندما يعتمد الإنسان على الخالق ويضع قدمه على الأرض وينظر إلى السماء فلن يحول دونه ودون طموحاته حائل.. ليس ثمة عزيز على الله.. قال جل شأنه : ...هو علي هين.. الآية مريم 21.
وخلاصة القول هنا أننا يجب أن نركز في رؤيتنا المستقبلية كأفراد وكيانات بل ودول على غاية الفلاح لا على هدف النجاح الذي يعتريه الخلل من جانبيه الزمني القصير والمرحلي الذي قد لا يحقق الغايات النهائية.