«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
جلست والدته بتأنق ملوكي في رواق البيت تنظف كمية «العيش» من الشلب وما علق به من أشياء، استعدادا لإعداد وجبة الغداء وبجوارها أم يوسف احدى النساء اللواتي يترددن على بيتهم لمساعدة والدته في اعمال البيت في زمن لم تكن فيه عاملات المنازل بالصورة الحالية. كانت ام يوسف مثل غيرها من النساء المتعففات وعلى الاخص الارامل والمطلقات او اللاتي يعانين من ظروف حياتية صعبة لذلك يلجأن الى بعض بيوت العائلات الميسورة الحال والاغنياء وحتى الاعيان، ولم تكن الواحدة منهن تسأل عن اجرها ولكنها تترك الأمر المادي لسيدتها صاحبة البيت حسب كرمها وتقديرها. ومع الايام تتنامى العلاقة بينهما لتصل احيانا الى حد صداقة وحتى محبة.. بل هناك من تقوم بإرضاع الابناء والبنات. لذلك تكونت صلات قوية بينهم.
نظر الفتى للمشهد، والدته تلتقط الشلب من بين حبيبات «العيش» تارة، وتارة أخرى تهز المنسف لتبرز على سطح العيش الشلب وبعض القشور. وام يوسف التي بدأ بطنها ينتفخ من آثار الحمل. ويكاد يخرج من بين ثوبها الاسود الخفيف وبدأت بعض الخيوط الذهبية التي اهترأت وتغير لونها الى لون مخضر تتدلى وتهتز مع كل حركة تقوم بها.. وبرزت على استحياء بعض الزهور الصغيرة المطرزة في بعض اجزاء من الثوب، وخلف ذلك دراعة بلون أحمر داكن. كان الصمت سائدا بين سيدة البيت وأم يوسف تقطعه بين فترة واخرى بعض الخرخشات لصوت صفحات مجلة «سندباد» التي يطالعها الفتى وبعض زغزغة عصافير تقف على شرفة الرواق. وهم يراقبون ما يدور فيه.
ويتحينون الفرصة للانقضاض على ما قد يتناثر على البساط المخطط بألوان مختلفة من بعض حبيبات خلال عملية النسف او تطاير وتناثر بعض شظايا قطع القرع او الباذنجان او حتى حبات الرمان اثناء تقطيع ام يوسف لها وهي تجهزها للطبخ.
قطع هذا الصمت صوت والدته وهي تناديه بصوتها الخفيض مادة يدها له بخمسة ريالات طالبة منه سرعة احضار كمية من لحم الغنم من «القصابية» على ان يوصي القصاب ان يكون اللحم بدون عظم، وعندما اقبل ليأخذ ورقة النقود من والدته وهو يقدم رجلاً ويؤخر أخرى كارهاً توقفه عن تصفح مجلته الحبيبة، قالت ام يوسف وهي تبتسم: اوصيه يا ام عبد العزيز لا يتأخر ولا يروح هنا ولا هنا.. فرد عليها الفتى بحدة: أنت شايفتني رايح هنا ولا هناك؟!.
فتبسمت ام يوسف وقالت: بصراحة ابويوسف هو اللي شافك وقال لي اكثر من مرة انه شاهدك تتصفح مجلات في مكتبة «بالقيصرية»، وبالتحديد اللي تقع مقابل «القصابية». كانت الام تتابع الحوار القصير الذي دار بينهما فقاطعتهما قائلة: ما دامه رايح المكتبة ما فيه مشكلة، المهم أنه لا يتأخر.
قالت ذلك وهي تنظر اليه وفي عينيها توبيخ صامت.
أخذ الخمسة ريالات وتوجه خارجا من البيت بعدما احسن من وضع طاقيته المزدانة بدوائر مطرزة بخيوط الزري.
وفي سوق اللحوم «القصابية» دار بين مصاطب القصابين ووجد قصابا يبيع لحم غنم، فمد له الخمسة ريالات بعدما القى عليه تحية السلام وطالباً منه أن يعطيه لحم غنم بدون عظم حسب طلب والدته. فتطلع إليه القصاب السمين مازحاً.
وقال بصوته الاجش: من سنين يا ولدي نحاول تربية غنم بدون عظم لكن سرعان لحمها يطيح.؟!. فنظر الفتى للقصاب نظرة طويلة مشبعة برائحة اللحم والشحم والدهشة وقال: أجل عطني اللي عندك..؟! وناوله «فوطة» ليلف فيها اللحم.
لكن في داخله اشتعلت نار موقدة. يكاد يتطاير شررها من عينيه.
وهو يتساءل بينه وبين نفسه هل يتصور هذا القصاب السمين (التلخ) انه جاهل ولا يعرف ولا يفهم.. انه لا يوجد اغنام بدون عظم، لكنه بلع ريقه على مضض والذي اطفأ ناره المشتعله وهو يحث الخطا عائدا الى بيتهم وهو يحمل اللحم اللي كله عظم..؟!.