كنتَ، يابن الخالة، فعلاً « شامخًا » في الأدب والكرم والخُلق الحَسَن. وكنتَ، لمن لا يعرفك جيدًا، عصامي النشأة والدراسة. وكنتَ قدوة حسنة لمعاصريك من الشباب الذين كانوا يطمحون إلى التحصيل العلمي متى ما تهيأت لهم السبل، أمثال كاتب هذه السطور. فقد كنتَ يا أبا خالد بالنسبة لي، رغم تقارب العمر، الأخ الأكبر، والموجه السديد والناصح الأمين. كنت متواضعًا طيب السريرة، مما زاد من مقامك عند الكثيرين من طلابك ومحبيك. كنتُ أتمنى أنك عندما عدتَ إلى مسقط الرأس ومرتع الطفولة، مدينة عنيزة، بعد العطاء الكبير الذي سبق التقاعد، سوف ترفع الراية في مجال علمك وتخصصك وتنشئ ناديًا أدبيًّا « شامخًا » بحق وحقيق. ولكنك اخترت الهدوء والحياة الهادئة، وهو لا شك من حقك. ومع ذلك فقد ظللت ما شاء الله ملء السمع والبصر في عنيزة، إضافة إلى وجودك ومشاركتك في مجلس المنطقة لسنوات.
كان أبو خالد، تغمده الله بواسع رحمته، من أوائل الذين التحقوا مبكرًا بالتعليم الحديث، ليس فقط من عنيزة ونجد بل في عموم المملكة. أكمل تعليمه الابتدائي في عنيزة ثم التحق عام 1368هـ 1949م بالمعهد العلمي السعودي في عنيزة لمدة عامين فقط ثم انتقل إلى مكة المكرمة لينضم مع نخبة من زملائه للمعهد العلمي السعودي هناك ويحصل فيه على شهادة المعهد. وحينذاك لم يكن له دافع من والد أو قريب أو صديق، بل كان طموحًا شخصيا ونضوجًا مبكرًا، رغم أن العائلة كانت متواضعة الحال وبحاجة إلى مزيد من الدخل. والده عليه رحمة الله كان كثير الأسفار لطلب الرزق. فعاش أبو خالد قريبًا من والدته، الخالة موضي العبد العزيز المطوع، وتحت رعايتها المباشرة. وكانت الخالة موضي رحمها الله تتمتع بقسط وافر من الحنان والنضوج الفكري والحكمة وسداد الرأي وذات شخصية جذابة. فقد كانت بالنسبة لأبنائها وبناتها نعم الحاضن والمربي. تربي أبو خالد تحت حنانها وعنايتها. وكان لِوَعْيها وحضور ذهنها وبعد نظرها أثر بالغ في مستقبل ابنها الحبيب. كان عمره عندما غادر عنيزة إلى مكة لمواصلة الدراسة قريب من منتصف العقد الثاني، وهو عمر مبكر بمقاييس ذلك الزمن الذي لم يعرف من وسائل الاتصال إلا البريد العادي الذي يستغرق وصوله أسابيع. لم تعارض تلك الأم الرحوم سفر ابنها الشاب اليافع، فتوكلت على الله وودعته الباري الذي لا تضيع أمانته وتحملت فراقه رغم صعوبة ذلك.
وهو حتمًا كان يعلم معنى الغربة والابتعاد عن الأهل والأحباب في سنه المبكرة ويدرك ما هو مقبل عليه من تحمل للمسؤولية، مسؤولية الدراسة والتحصيل العلمي ومسؤولية التأقلم مع الحياة الجديدة. إنه الإصرار على التفوق والنجاح، وذلك يتطلب الكثير من العزم والمغامرة والثقة بالنفس. وهي مميزات كانت قد توفرت لدى أبي خالد منذ أن انفتح أمامه باب التحصيل العلمي.
بدأ اتصالي مع أبي خالد في سن الطفولة بحكم القرابة. ولكننا افترقنا مبكرًا بسبب ظروف الحياة لكل منا. ولم يعد الاتصال المباشر إلا بعد عودتي للدراسة المتوسطة والثانوية بعد الزواج. وكان أبو خالد عليه رحمه الله قد عاد من القاهرة بعد تخرجه من الجامعة والتحاقه بوزارة المعارف لبضع سنوات، قبل العودة إلى الدراسات العليا في لندن وحصوله على شهادة الدكتوراه في الأدب. مرت عليَّ حينها ظروف كنت خلالها بحاجة إلى منْ أستشيره في أمور تتعلق بالدراسة. فقد أعطاني، رحمه الله، من التشجيع والأمل بالمستقبل ما جعلني أنسى ما كان يشغل بالي وفكري بما سوف يحدث وأستعد له. ذلك هو ابن خالتي موضي، الرجل الفاضل الدكتور محمد العبد الرحمن الشامخ. كنت قد أخبرته عن عدم ارتياحي للنتيجة التي حصلت عليها في الثانوية العامة لأسباب ليس هذا مجال شرحها، والتي كان هو يعرف ظروفها وأسبابها، وذكرت له تخوفي من أن يؤثر ذلك على قبولي في الجامعات التي كنت أنوى الالتحاق بها. فأرسل إليّ خطاباً قيِّمًا،لا أزال أحتفظ به، ضمَّنه الكثير من النصائح الأخوية العملية والتشجيع. ومما قاله رحمه الله: أن هناك أعداد كبيرة من الطلاب يتمنون الحصول على ما حصلتَ عليه. فقوُّى ذلك من عزيمتي وجعلني فعلاً أنظر إلى المستقبل ولا ألتفت إلى الماضي، وأن أكون متفائلاً مهما صادفني من الصعاب. ولم يكن ذلك أول اتصال ليّ بأبي خالد حول موضوع الدراسة. فقد ساعدني كثيراً عندما قدمت طلبًا إلى وزارة المعارف قبل ذلك بسنتين لدخول اختبارات الدور الثاني، أولى ثانوي، في الرياض، بموجب نظام « القفز» المسموح به آنذاك. وعندما كنت أؤدي الاختبارات اليومية لمدة خمسة عشر يوماً، كنت ضيفاً مكرماً عنده، فلم أنس كرمه وفضله وسعة صدره، رغم كثرة مشاغله ومسؤولياته. وبالطبع ظل الاتصال بيننا خلال سنوات الدراسة الجامعية في أمريكا، وواصل توجيهاته ونصحه حتى بعد تخرجي من الجامعة، عندما كنت على مفترق الطرق بالنسبة للعمل، وهل أظل أعمل في مكتب وزارة البترول بدون خبرة ميدانية، أو أبحث عن مكان آخر.
وقد ُسرَّ كثيراً عندما علم بأني سأنتقل إلى العمل في شركة أرامكو. ولا زلت أشعر أنني لم أفِ ولو بقسط يسير من أفضاله علي. فجزاه الله عني خير الجزاء و غفر له وأسكنه فسيح جناته، مع والدينا وجميع أموات المسلمين.
** **
- عثمان الخويطر
Ohk66@yahoo.com