لو كان الهدوء رجلا لتمثّل في شخصية الدكتور محمد الشامخ ، ولو كان للدكتور محمد الشامخ معنىً لكان الهدوء هو معناه، رحل د . الشامخ عن دنيانا يوم الخميس 16ذو الحجة 1438هـ في مدينته عنيزة التي عاد إليها واستقر فيها بعد تقاعده من عمله في كلية الآداب بجامعة الملك سعود عام 1406 هـ ، إيثاراً للهدوء خاصة بعد انتقال الجامعة إلى مبانيها الجديدة في الدرعية، بعد رحلة علمية مع البحث والتدريس، راضياً بما قدّم من مؤلفات، وبمن قدّم من تلاميذ تشربوا منهجه، وأتمّوا مسيرته، ولايزالون يلهجون بشكره وتقديره والامتنان له إلى اليوم، واكتفى بما قدّم من مؤلفات تأصيلية ريادية في مجالها، لاتزال إلى اليوم مصدراً للباحثين والطلاب، طرح من خلالها أفكاره ورؤاه الفكرية والاجتماعية والأدبية فنام عن شواردهاوترك الخلق يسهرون ويختصمون حولها.
ولد في عنيزة وتعلّم فيها، ثم انتقل إلى مكة وواصل فيها تعليمه الثانوي، ثم ارتحل إلى القاهرة ليحصل من هناك على الشهادة الجامعية من كلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم ابتُعث من كلية الآداب بجامعة الرياض (جامعة الملك سعود حالياً) إلى بريطانيا للدراسات العليا في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن ، وحصل على الدكتوراه عام1387هـ / 1967م ، وكان عنوان رسالته [ النثر الأدبي في الحجاز بين عامي 1908-1941م ، مع نبذة عن تاريخ صحافة هذه الفترة] ثم ترجم رسالته إلى اللغة العربية، وظهرت في ثلاثة أجزاء : 1 - نشأة الصحافة في الحجاز 2- التعليم في مكة والمدينة آخر العهد العثماني 3- النثر الأدبي في المملكة، عمل أستاذاً في جامعة الملك سعود ، ورئيساً لقسم اللغة العربية، وكان حريصاً على استقطاب المتميزين من الطلاب ، وكان له فضلٌ على كثير ممن أصبحوا فيما بعد أساتذة في القسم، وكان متفاعلا مع الصحافة والإعلام بالكتابة الصحفية والأحاديث واللقاءات الإذاعية، ثم جمع عدداً منها في كتابه (كاتب الحي) الذي قدّم له بقوله ( ولقد أرادت هذه المقالات أن تكون نبرة من نبرات ذلك الصوت الذي يريد للغة العربية أن تجد في جزيرتها موئلاً يعصمها من الأمية والعجمة ، ومكاناً لا تعصف به رياح اللغات الغالبة ، كما حرصت هذه الكلمات على أن تكون سطراً في صحفة تلك الدعوة التي تريد لجزيرة العرب أن تصبح أرضاً طيبة تغذو الفكر وتؤصله .. ).
ثم لخّص خبراته وقراءاته في البحث الأدبي في كتابه (إعداد البحث الأدبي) الذي ترجم فيه طائفة من الأقوال والأفكار التي تجمّعت بين يديه خلال دراسته العليا، فجاء الكتاب في قسمين، القسم الأول ( حوى الكثير من تجارب الباحثين الجامعيين ، ولكن فيه القليل مما يعود إلى اجتهاد المؤلف وتجربته ، أما القسم الثاني فهو ترجمة نصيّة لفصول نشرها الأستاذ ج . واطسون الأستاذ بجامعة كمبردج عام 1970م في كتابه : The Literary Thesis)) الأطروحة الأدبية) .
بعد تقاعده استقر في عنيزة مسقط رأسه ولم يرحل عنها إلا لزيارة والده رحمه الله في الرياض، أو لقضاء بعض الوقت في مكة، ولم يكن يغشى المناسبات الاجتماعية العامة، عمل عضوا في مجلس منطقة القصيم في بداية تشكيله عام 1414هـ، وكان من ضمن الأدباء المكرّمين في المؤتمر الثالث للأدباء السعوديين عام 1430هـ /2009م، وتواصل كتابياً مع جريدة الرياض بكتابة مقال أسبوعي، جمعها في كتابه (البحث عن أدب عربي يصلح الأرض العربية ولايفسد فيها)، ظهر في فصلين، الفصل الأول: فصل نظري لخّص فيه نظريته الأدبية القائمة على (إنتاج أدب بنّاء يعمره الإيمان، ويزدان بالعفة والفضيلة، ولتكون صوتاً من أصوات الحق التي تسعى إلى أن يكون للإنسان العربي المسلم كيانٌ فكري إيماني لاتعصف به الريح الغربية، ولاتطمسه الثقافة الأجنبية) أما الفصل الثاني فكان (دراسة نصية لعدد من المقطعات الشعرية والومضات الإبداعية التي أوقدتها بصيرة المسؤولية الأدبية وأوحى بها الوجدان الروحي لئلا يكون الحديث عن هذا اللون من الشعر حديثاً نظرياً عاماً) ، ثم آثر الهدوء بعدها، في حين ظلّ آخرون يمارسون صخبهم وضجيجهم وتعلو أصواتهم حول هذه الرؤية لسنوات، دون اقتراح حلولٍ عملية ملموسة.
عانى في سنواته الأخيرة من اعتلال في صحته، فكان صابراً متجلّداً، حريصاً على أداء الصلاة سيراً على الأقدام في مسجد الإحسان القريب من بيته، ولم يعلم بمرضه الأخير إلا المقربون منه، مؤثراً الرحيل بهدوء.
استفدتُ ـ بحكم علاقة القربى معه ـ من توجيهاته ونصائحه في مرحلة الدراسات العليا ، خاصة في الموضوعات التي تمسّ الأحياء ، فالكثيرون منهم لايتقبّلون النقد الموضوعي، فالنقد الآن في نظره إما سجالات ومشاحنات، وإما تقريض وتسويق، لذلك فقد ولّى ظهره عن الكتابات النقدية لأعمال المبدعين المعاصرين، على الرغم من توافر الوقت الذي كان يملكه بعد التقاعد ، وسيل المؤلفات التي تصله من مؤلفيها، وقد طلبتُ منه ذات مرة أن يكتب عن رأيه في مستوى حركة الشعر في القصيم، واعتذر احتراماً للمبدأ الذي اختاره.
ستظل مؤلفاته مصادر أصيلة في موضوعاتها، ومداخل هامة في مجالها ، وقد أتاحها ـ مؤخراً ـ للتحميل المجاني عبر الانترنت ، لتبقى آثاراً تحمل ذكره وذكراه، متمثّلاً قول الشاعر أحمد شوقي:
دَقَّاتُ قلبِ المرءِ قائلةٌ له
إنَّ الحياةَ دقائقٌ وثواني
فارفع لنفسك بعدَ موتكَ ذكرها
فالذكرُ للإنسان عُمرٌ ثاني
** **
أ. د/ إبراهيم عبدالرحمن المطوع - عنيزة - جامعة القصيم