سليمان الجاسر الحربش
تكاد تجمع أدبيات التنمية المعاصرة على ما للاستدامة البيئية من مكانة مركزية في خطط التنمية وبرامجها، وليس أدلَّ على ذلك من كون أهداف التنمية المستدامة، التي أُقرَّت قبل عامين لتكون برنامجاً توافقياً تستهدي به الأطراف المعنية في تحديد غاياتها وتنفيذ خططها؛ قد تضمنت جملةً من الأهداف المتعلقة بالبيئة بشكل مباشر، فضلاً عن عدد من المقاصد ذات الأبعاد المتصلة بالبيئة بالنظر إلى التداخل المحتم بين تلكم المسائل البيئية وبين قضايا التنمية وفروعها.
في هذا السياق، وبالإضافة إلى ما دأب عليه (أوفيد) من تمويل مشروعات البنية التحتية والإنماء في مختلف القطاعات؛ فقد عمد خلال السنوات القليلة الماضية إلى أن يوجِّه عملياته لتأخذ في اعتبارها مترابطة Nexus الطاقة-المياه-الغذاء أكثر من ذي قبل. حيث تشكل تلك القطاعات أقساماً لا تنفصم عراها من المعادلة نفسها؛ فلا بدَ إذاً من معالجتها باتباع نهج متكامل يدرك أن الفعل في أحد هذه القطاعات غالباً ما يكون ذا تأثيرات عميقة على القطاعين الآخرين، ولا سيما مع ما تضيفه الزيادة السكانية المطردة، والنمو الاقتصادي، والتمدد الحضري، والتغير في أساليب العيش وأنماط الاستهلاك جميعاً من أعباء، ولا سيما في البلدان النامية، ومن ضمنها معظم البلدان العربية التي ما فتئت تصارع التحديات الجمَّة في البيئة والتنمية على حدٍّ سواء.
تتعدد التداخلات المعقدة بين المياه والغذاء والطاقة؛ فمن تجلياتها المياه اللازمة لاستخراج الوقود الأحفوري ومشتقاته، وتبريد منشآت الطاقة الحرارية، وزراعة محاصيل الوقود الحيوي، وتوليد الطاقة الكهرمائية، فضلاً عن إنتاج الغذاء. والطاقة بدورها أساسية في كل مراحل سلسلة التـزويد بالغذاء، إذ تستخدم في ضخ المياه الجوفية، والمكننة، والحصاد، والتصنيع، والتغليف والنقل والتسويق. كما أنها لازمة لمعالجة المياه أو تحليتها وتوزيعها، ولإنشاء وتشغيل مرافق الإمداد بالمياه، بالإضافة إلى استخدامات أخرى كثيرة.
و أمَّا مصادر الطاقة المتجددة، فإنَّها قادرةٌ على القيام بدور عظيم الأهمية في معالجة بعض أكبر تحديات مترابطة المياه والغذاء والطاقة؛ إذ يمكن استخدامها في مراحل مختلفة من سلسلة الإمداد بالمياه، كما أن الضخ العامل بالطاقة الشمسية ذو نفع كبير في المناطق غير المتصلة بشبكة الكهرباء حيث تتواجد التجمعات السكانية غير المتمتعة بهذه الخدمات، بالإضافة إلى التقليل من التأثيرات البيئية للطاقة المستمدة من الوقود الأحفوري. وتجدر الإشارة إلى أنَّ (أوفيد) يقوم في هذا الصدد بتمويل مشروعات تقوم على الطاقة المتجددة استنادا إلى التزامنا باتباع نهج محايد بشأن التكنولوجيا المختارة. وتتباين المشاريع وفقا للظروف الخاصة للبلدان والمجتمعات المحلية المعنية لتشمل مزارع الطاقة الريحية وتوليد الكهرباء بالطاقة الشمسية والغاز الطبيعي وغيرها. وليس بخافٍ ما لهذا من آثار طيبة على البيئة والتوازن الحيوي إذ يحد من استخدام الكتلة الحيوية لأغراض الطهي والتدفئة.
إنَّ الضغط المتصاعد على هذه الموارد لَيستدعي نهجاً لإدارتها وسياساتٍ قادرة على تعزيز استخدامها الأمثل واستدامتها. وحتى عهد ليس بالبعيد، فرض النهج القِطاعي سيطرته على التخطيط المتعلق بالموارد الطبيعية من المياه والطاقة والغذاء وكذا على إدارتها واستخدامها، وقد أفضى ذلك إلى تراجع قدرتها الإنتاجية. ومن الجلي أن إبقاء الأمور على ما هي عليه سيؤدي إلى مزيد من استنـزاف تلك الموارد ويلحق ضرراً بالغاً بالنظم الحيوية، وسيؤثر هذا على إمكانية تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
إنَّ من شأن اتباع النهج المترابط في التعامل مع تلكم الموارد أن يمكِّن صانعي القرار من تبني خطط متوازنة لا تقوم على المقايضة والمفاضلة بين ما عسى أن يتعارض من الأهداف المتعلقة بكل قطاع، ولا تنـزع إلى تغليب بعضها على بعض. كما يمكن أن يساهم تبني سياسات جديدة تختص بالأثمان، والتعرفة، والدعم، والضرائب إلى تعزيز كفاءة واستدامة الموارد. ويتصل بهذا ضرورة تنسيق أولويات الاستثمار في قطاعات المياه والطاقة والزراعة، وأن يتم جعل النهج المتكامل جزءاً من خطط تطوير الاستثمار.
كان من الطبيعي، والأمر كذلك، أن تركز الخطة العشرية الحالية لأوفيد على هذه القطاعات وعلى الترابط في ما بينها. وليست مختلف العمليات التي موَّلناها إلا تجسيداً لهذا التوجه، وذلك من خلال نوافذ تمويلية متعددة تتواءم وطبيعة التدخل الذي يتم تنفيذه. ففي قطاع الزراعة، موَّلت المؤسسة مشروعات ترمي إلى الحد من تأثر الفقراء بالأحوال المناخية المتطرفة كالجفاف والفيضانات، وتعزيز القدرة على التكيّف، وتنفيذ ممارسات زراعية متينة تؤدي إلى زيادة الإنتاجية والمحاصيل. ويمول (أوفيد) كذلك المشاريع الزراعية المتكاملة واسعة النطاق، ويتوخى تعزيز الممارسات الزراعية ذات الاستدامة، ودعم نظم الري الصغرى والزراعة الملحية، وإيجاد نظم إنتاج غذائي مستدامة، وإقامة شبكات التوزيع وسلاسل التوريد الفعَّالة، ودعم صغار المنتجين، وتشجيع البحوث الزراعية وتحسين البنية التحتية الريفية، وإنشاء صناديق للتخفيف من آثار تغيُّر المناخ، وتوفير المنَح الدراسية وفرص التدريب للمنتجين الريفيين الشبان في مجال مشاريع الأعمال الزراعية وتغيُّر المناخ، وتمكين التعاونيات الزراعية والمنظمات الريفية. وغير بعيد عن هذه المشروعات، واصل (أوفيد) دعمه المشروعات التي تهدف إلى تمكين الجميع من الحصول على مياه الشرب المأمونة والميسورة التكلفة، وكذلك تلك الرامية إلى توفير خدمات الصرف الصحي والنظافة الصحية، وزيادة كفاءة استخدام المياه والتقليل من الفاقد، بغية ضمان استدامة الموارد المائية واستخدامها على النحو الأمثل.
و أما الركن الثالث، وأعني به المشروعات المتعلقة بقطاع الطاقة، والتي لطالما كانت إحدى الركائز الأساسية لما تقوم به مؤسستنا من جهود المناصرة ومن عمليات ومشروعات على حدٍّ سواء؛ فقد تواصل الاهتمام بها من حيث هي لازمةٌ لتمكين جهود التنمية والنشاط الاقتصادي في مختلف القطاعات، وقد عزز (أوفيد) تمويل العمليات الرامية إلى ضمان حصول الجميع بتكلفة ميسورة على خدمات الطاقة الحديثة الموثوقة وميسورة التكلفة. وعند (أوفيد) أن العِقد الذي ينظُم تلك الجهود إنما يقوم على بناء القدرات الذي يحرص (أوفيد) على تضمينه في مشروعاته باعتباره الضامن للفاعلية والاستدامة، وذلك من خلال نقل المعرفة التقنية بالحلول المجدية اقتصادياً، وتعميم الممارسات الفُضلى.
يقوم (أوفيد) بجهود المناصرة وبتعزيز الشراكة بين بلدان الجنوب ونظيراتها من البلدان النامية في مختلف أنحاء العالم بغية القضاء على الفقر، وهو مبدأ ترتكز عليه رسالة مؤسستنا، فضلاً عن كونه أحد أركان الشراكة العالمية من أجل فعالية التعاون الإنمائي والهدف السابع عشر من أهداف التنمية المستدامة؛ ذلك أن (أوفيد) لا يكتفي في تعامله مع التحديات الراهنة بدوره التقليدي كمؤسسة تمويل إنمائي تقوم بدعم وتوسيع المشروعات والتدخلات الميدانية؛ بل يعدو ذلك إلى أن يقوم بدور المناصر للنهج المترابط في مختلف المحافل ذات الصلة، كما يعمد إلى تأسيس التحالفات والشراكات مع المؤسسات التي تشترك معه في وسائلها وغاياتها.