د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
هجمة شرسة يتعرض لها المعلم في وسائل الإعلام المختلفة، وكأنه سبب كل أدواء المجتمع، وفي رأيي لا يجوز مطلقًا اقحام المعلم في تصفية حسابات إيديولوجية مغرضة لأن المعلم ليس إلا حلقة في منظومة متكاملة ويؤدي رسالته بكل ما يملكه من إمكانيات وفق البيئة المتاحة. وكان الأحرى بالناقدين أن يكونوا محايدين، كما يطلبون من المعلم أن يكون، وأن ينظروا في العملية التعليمة ككل.
فالتعليم منظومة متكاملة تحدد أهدافها الجهات العليا في الدولة، والتعليم العام، التعليم ما قبل الجامعي، هو أساس التعليم في معظم الدول حتى أكثر الدول توجهًا للخصخصة مثل أمريكا وأوروبا. وتخضع عملية التعليم لمراجعة واصلاحات مستمرة من حيث الأهداف والأساليب. وتمزج بعض الدول مثل بريطانيا بين أنماط مختلفة من المدارس، حيث يتيح النظام المجال للمدارس الخاصة، أو حتى التعليم المنزلي بدعم من الحكومة وبإشراف جهاز تفتيش عام يسمى «الأوفستيد» ليتأكد من الالتزام بأهداف التعليم العامة والتي هي في النهاية تربوية. ويخضع جميع الطلاب لتقييم واحد بعد المرحلة الثانوية. ورغم ذلك فما يقارب الـ 93% من الطلاب يدرسون في المدارس الحكومية، والتعليم إلزامي للجميع.
ويبدأ التعليم في بريطانيا وفرنسا من سن 2-3 حيث يسمى ذلك في بريطانيا التعليم الإعدادي، وفي فرنسا التعليم الأمومي، وتقتصر مهمة التعليم في هذه المرحلة على النساء وكأنه استمرار لمرحلة الأمومة في المنزل مما يتيح استقلال الطفل التدريجي عن البيت وتهيئته للاندماج مع الأطفال الآخرين، وتعليمه مبادئ النظام والنظافة وبعض المهارات القليلة من الكتابة أو الحساب، وتعتبر هذه المرحلة مرحلة إعدادية للمرحلة الابتدائية وتقتصر في معظمها على التكوين الشخصي للطفل، وهي مرحلة تربوية أكثر منها تعليمية. أما المرحلة الابتدائية فتركز على بدايات التكوين العقلي للطالب، وتشمل مادتين أساسيتين الرياضيات واللغة ومعهما بعض الأنشطة الفنية والرياضة البدنية. أي أن هذه المرحلة تعمل على تنمية مهارات التفكير بالجزء الأيسر من الدماغ بالرياضيات واللغة، والجزء الأيمن بالفن والموسيقى والتذوق، والمهارات الحركية بالرياضة.
أما المرحلة المتوسطة فتبني على ما تم التأسيس له في الابتدائية مزيداً من الرياضيات والمهارات اللغوية مع زيادة مادة القراءة ومهارات التفكير الأخرى. ويترك التكوين الوجداني للمرحلة الثانوية حيث يكون الطالب ناضجًا بما فيه الكفاية ولديه قدرة على التفكير النقدي لتعلم التاريخ والجغرافيا وتكوين حكمه بنفسه على المجتمع من حوله بشكل لا يسمح للمعلم بفرض قناعاته الشخصية عليه.
بيت القصيد هنا هو أنه كلما كانت الأهداف التعليمية والتربوية واضحة وقابلة لمراجعة كلما أمكن تقويم العملية التربوية بشكل دقيق، والأهم من ذلك هو زيادة إمكانية تأهيل معلمات ومعلمين لتأدية المهام المرجوة من التعليم. فمن شروط التعليم الناجح وضوح الأهداف ومناسبته للتكوين العقلي والعمري للتلاميذ. وهذه ليست بالمهمة السهلة فأهداف التعليم الموضوعية تراجع بشكل دوري حسب تطور الدراسات التربوية من حيث ملاءمتها للنمو العقلي والوجداني للطالب ومن حيث تحقيقها لأهداف اعداده للمرحلة اللاحقة. ويتم تزويد المعلمين بنسخ من نتائج التقويم التربوي السنوي، وتتاح لهم فرص التدريب والتطوير.
وعلى عكس ذلك يكون التعليم الذي لا يراعي التكوين العقلي والوجداني للتلميذ، ولا يراعي مستوى قدرته على الفهم والاستيعاب ويعتمد على تلقينه اجباريًا. فلهذا النمط من التعليم غير واضح المعالم آثار جانبية سيئة كثيرة من أهمها: إهمال نمو القدرات العقلية للنشء وجعله يعتمد على حفظ واستظهار نصوص لا يعرف معناها، وهذا يفقده ثقته في نفسه، بحيث يكون مهيئاً للتلقي السلبي من أي مصدر آخر مؤخرًا. والتلميذ الذي يرغم على تعلم علوم لا يفقه معناها يصاب بالملل وربما الاكتئاب والنفور من المدرسة والتعليم. والتعليم التلقيني ينشط الذاكرة لدى المتعلم فقط على حساب المهارات العقلية العليا الأخرى، ولذا فهو ينمو غير قادر على التفكير بنفسه لنفسه وتكون شخصيته «نصوصية» لا ترى أي عيب في التناقضات السلوكية أو تكون تابعة لغيرها. ونتيجة لنقص مهارات التعامل مع المجتمع والبيئة يشب التلميذ على قصور واضح في فهم البيئة والمجتمع.
البعض مؤخرًا نسي جميع هذه العوامل، وغفل عن رؤية تكامل العملية التعليمية وصب جام غضبه على المعلم. المعلم الذي هو نتاج عمليات تعليمية سابقة معظمها تلقيني منفصم عن الواقع. فالتعليم كالنبات في البيئة يعيد بذر نفسه وإنتاجها. ولا توجد ثقافة تعليمية في أي مجتمع تسمح بقذف المعلمين والتعميم عليهم بمثل ما شاهدنا في وسائل إعلامنا المرئي والاجتماعي. فنقد المعلم شيء والتهجم عليه والتشفي منه شيء آخر. ولا يجوز مطلقًا استخدام المعلم كموضوع تصفية حسابات إيديولوجية. وما لم يتحمل مسئولية تعليمية من قبل لا يمكن أن يدرك حجم مسئولياتها. نعم نتمنى أن يتطور التعليم لدينا للأفضل، ونرغب في معلمين أفضل، مع العلم أن غالبية معلمينا يؤدون واجبهم حسب الإمكانيات المتاحة لهم، ولكن ابتسار قضية المعلمين من العملية التعليمية واستهدافهم بعبارات لا تليق بمهنتهم النبيلة أمر مرفوض.