ملتصقًا بسور القاهرة، كأنما يحتمي به، أو يحتضنه بعد طول جفاء وبُعد؛ فقد كان خارج السور فأدخله الخليفة المستنصر في رحابه، ومتاخمًا لباب الفتوح، أحد أبواب سور القاهرة الذي يجاهد البقاء، ومطلاً على الشارع العتيق، شارع المعز، هكذا يقبع جامع الحاكم بأمر الله أحد الجوامع التاريخية البارزة بمدينة القاهرة. بُني هذا الجامع العتيق عام 380 هـ في عهد العزيز بالله الفاطمي الذي بدأ بناءه عام 379هـ (989م)، لكنه تُوفِّي قبل إتمامه فأتمه ابنه الحاكم بأمر الله (1012 - 1013م)؛ لهذا نُسب إليه.
مدخله الرئيس المطل على شارع المعز يحمل بعض نقوش تنطق بالإبداع في واجهة تفوح بعبق التاريخ (كان للجامع مداخل تسعة). دلفنا من بابه الخشبي العتيق، الذي ما زال يحتفظ بتجاعيد الزمن على وجهه. كان ضيقًا؛ فقد أغلق الحارس إحدى درفتيه. استقبلتنا مصافحة وجوهنا نسمة عابرة قادمة من صحن رحب مكشوف، يلتحف بالسماء الصافية تطل عليه، وتفضي إليه إيوانات أربعة، ترتفع وتتسع في مهابة (الإيوان هو قاعة مسقوفة بثلاثة جدران والجهة الرابعة مفتوحة تمامًا وتطل على الصحن أو الفناء الداخلي، وقد تكون مصفوفة بأعمدة).
مرقنا عبر رواقين تزينهما العقود المحمولة على أكتاف ترتكز على أعمدة أو دعامات، أشبه ما تكون بدعامات جامع ابن طولون العتيق، وبجامع الظاهر بيبرس المنكسر الحزين، الذي أكلته الرطوبة الأرضية، واتخذت منه المياه الجوفية موطنًا لها. أعمدته ليست برشاقة أعمدة الأزهر الرخامية الملساء، وغير متبرجة بزينة من التيجان المنحوتة، ولا مرتكزة على قواعد راسخة مستعرضة. من ينظر إلى هذه الأعمدة يستشعر كم تجاهد أن تنتصب، وهي تتزين بإزار جصي من الكتابات الكوفية البديعة، وقد أنهكها وأحنى ظهرها قليلاً ما تحمله طوال تاريخها الطويل، فمالت بقوامها الممتلئ قليلاً.
كان الوقت مساء، والأضواء خافتة، تلقفنا بترحاب هدوء نسبي في الجامع بعد أن طاردنا ضجيج الشارع وصخبه الدميم. ومع ذلك كانت هناك بقع متناثرة من البشر، جماعات وفرادى، يفترشون رحابة الصحن المكشوف وأدغال الأروقة. بدت السماء من صحن المسجد كاشفة عن وجهها البهي الرائق الموشى بالنجوم الزاهرة، بعد أن نزعت عنه قناع البنايات العالية المتراكمة التي تطاردها في سماء مدينة أشبه بالعجوز المتصابية. كم نفتقد النظر إلى بهاء السماء. لقد أجهدنا النظر إلى الأرض، وأصابنا بالدوار والحيرة. وكم تغفل عن جمال سماء القاهرة أعين ساكنيها لانشغالهم بصخب المدينة وأضوائها.
جلت ببصري في سقف الجامع الخشبي الصامت، ليس في جمال سقف الأزهر، أو إبداع وجلال سقف مجموعة الناصر محمد بن قلاوون، حيث الثراء الجمالي والتصاميم الأخاذة اللافتة (هؤلاء المماليك كانوا أرباب العمارة والفن، تشهد بذلك العمائر الإسلامية التي ترتفع قاماتها، من مساجد وبيوت، وبيمارستانات «مستشفيات» وأسبلة، وقلاع، وحصون وأبراج، وما زالت تحتفظ ببهاء وجهها وإن أنهكها الزمن).
فتح لنا صحن الجامع المتسع ذراعاه متهللاً برخامه الشاهق البياض الأملس الناعم، رحيبًا كصدرنا حين نسعد، تتوسطه كعادة المساجد القديمة ميضأة رخامية فريدة، تتسربل بثياب جديد، ليست كالثياب التي ترتديها ذات العز البائد الكائنة في صحن جامع محمد علي بالقلعة، أو تلك المسكينة في صحن جامع ابن طولون.
حين أدرت ظهري لإيوان القبلة بدت مئذنتا الجامع الفارعتان على البعد، كل واحدة منهما كحسناء شرقية محتشمة في الفضاء المسائي. تساءلت كم مرة رفع الأذان من على ظهر هذا المكان، أكثر من ألف عام أريقت على سطح هذا الجامع، وأشرقت ألوف الشموس وغابت على مئذنتيه. كنت شغوفًا بتسلق ملوية ابن طولون في مقتبل شبابي، ولم أغامر ولم يتيسر لي صعود مئذنة الحاكم. فريدة هذه المئذنة في تصميمها. قرأت أن المئذنتين كانتا برجي مراقبة للفرنسيين الذين احتلوا الجامع، واتخذوه مقرًّا لهم في حملتهم على مصر (1798 -1801م). هؤلاء الفرنجة لهم تاريخ من تدنيس المساجد لا يمحى، ولا ينسى التاريخ أنهم دنسوا الأزهر بخيولهم.
عانى هذا الجامع الفريد كثيرًا، وتألم طوال تاريخه؛ فقد مر بفترة ازدهار في بداية إنشائه، إلا أنه في نهاية الدولة الفاطمية وقبل قدوم صلاح الدين الأيوبي كانت قوات صليبية، استنجد بها الوزير شاور لتمكينه من السلطة في عصر الخليفة العاضد آخر خلفاء الفاطميين، قد اتخذت الجامع مقرًّا لها. وكانت هذه الحادثة سببًا في طلب الخليفة الفاطمي الأخير العاضد لدين الله النجدة من نور الدين محمود زنكي (شملت إمارته معظم الشام وكان ملكًا عادلاً مجاهدًا) فأرسل إليه قوة من الجيش وعلى رأسها أسد الدين شيركوه وصلاح الدين الأيوبي؛ لتسقط بعد ذلك الدولة الفاطمية في مصر (969 -1171م)، وترثها الدولة الأيوبية في حكم مصر والشام (1171 - 1250م). وبعدها بقليل ينقل صلاح الدين الأيوبي الخطبة إلى هذا الجامع، ويغلق الجامع الأزهر عملاً بفتوى الإمام الشافعي بالاكتفاء بجامع واحد للخطبة في المدينة الواحدة؛ ليعيش هذا الجامع أزهى فترات حياته.
وفي عام (702هـ/ 1312م) ضرب زلزال قوي مدينة القاهرة، وأدى إلى تصدع الكثير من جدران الجامع، وسقوط أجزاء من مئذنتيه، وبعض أسقف ظلات الصلاة وأعمدتها؛ فأمر الملك الظاهر ركن الدين بيبرس بعمل الإصلاحات اللازمة له؛ فأقيمت أسقف الجامع، وتم طلاؤه حتى عاد جديدًا، وأضيفت للمئذنتين قمتان جديدتان على طراز نهايات المآذن المملوكية المبكرة والمعروف باسم المبخرة. رحم الله الظاهر بيبرس؛ كان مجاهدًا عظيمًا ضد المغول والصليبيين، وقاد المسلمين لانتصار تاريخي على المغول في معركة عين جالوت، ونودي به سلطانًا على مصر والشام ما بين 1260 -1277م.
يدخل الجامع في طور جديد من الإهمال في القرن التاسع الهجري؛ فقد اتخذت منه قوافل التجارة القادمة من الشام مناخًا لإبلها ومعبرًا إلى أسواق القاهرة، كما جعل منه الشوام مكانًا لصناعة الزجاج ونسج الحرير. ويهتم به بعد ذلك السلطان الناصر حسن بن محمد بن قلاوون؛ فقام بتجديده وتكسية أرضيته بالرخام. والسلطان حسن هذا إليه يُنسب جامع السلطان حسن أحد أهرامات العمارة الإسلامية في القاهرة، ويعد من أشهر سلاطين المماليك، وقد تولى عرش مصر في الفترة (1347 -1351م) سلطانًا للدولة المملوكية بمصر والشام والحجاز واليمن والعراق وإفريقية.
وحظي الجامع في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي باهتمام نقيب الأشراف السيد «عمر مكرم» (1750 -1822م)؛ فقام بتجديد بعض أجزائه وتكسية القبلة بالرخام، كما أضاف بجوارها منبرًا ومحرابًا، وذلك بعدما تعرض من إهانة وتعدٍّ وتشويه أثناء الحملة الفرنسية على مصر، التي جعلت من ساحته إسطبلاً لخيولها، ومن مآذنه أبراجًا للمراقبة.
وعقب استيلاء البريطانيين على مصر عام 1882م بسنوات عدة استُخدمت أروقة الصلاة كمخزن مؤقت لتجميع التحف الأثرية من المنشآت الدينية التاريخية في القاهرة، وذلك بعد سد بعض عقودها حتى نقلت هذه التحف إلى دار الآثار العربية، التي تحولت فيما بعد إلى متحف الفن الإسلامي.
ويدخل الجامع بعد ذلك طورًا آخر من أطواره التاريخية العجيبة؛ فتتخذ وزارة المعارف المصرية من ظلاته الجانبية مقرًّا لمدرسة ابتدائية للصغار، ومن صحنه فناء لها، كانت تسمى بـ «مدرسة السلحدار الابتدائية». وظلت هذه المدرسة تقوم بأنشطتها التعليمية داخل أطلال الجامع حتى منتصف القرن العشرين تقريبًا؛ لتتقدم بعد ذلك بسنوات طائفة «البهرة الشيعية»، التي يرجع تاريخها إلى عهد الفاطميين، وترى في الحاكم قدسية لا يراها فيه غيرهم، بطلب إلى الحكومة المصرية لترميم وإعادة تهيئة الجامع بجهودهم الذاتية في عهد الرئيس أنور السادات، فعادت إليه الحياة، وعاد إلى الحياة. وفي السنوات الأخيرة ازداد بريقه وصار مَعلمًا بارزًا من معالم القاهرة التاريخية منذ دخولها في قائمة التراث الثقافي العالمي 1979م؛ ليحظى بمزيد من الاهتمام، وصار مقصدًا للزائرين من المواطنين والسائحين الأجانب.
تاريخ طويل متقلب الحال، مر به هذا الجامع، أشبه بتقلب مزاج من ينسب إليه، وتفاوتت أطوار حياته بين فترات اهتمام ونوبات إهمال، ولكنه استرد عافيته، وقام يؤدي دوره ووظيفته التي أُنشئ من أجلها؛ كونه مكانًا للصلاة، ومكانًا للذكر وقراءة القرآن، ويجد فيه البعض الآخر من الناس مكانًا للتأمل والخلوة والبُعد عن صخب الحياة وضوضائها، تلك التي يخلعها على بابه كما يخلع حذاءه. كما يقصده آخرون لاستجلاء ما فيه من تاريخ وعمارة وفن، والتقاط صور تذكارية في رحابه، كما يجد البعض الآخر في محيطه مكانًا للجلوس وأخذ قسط من الراحة أثناء التجوال في أنحاء القاهرة التاريخية وشارع المعز. وهكذا تنتهي زيارتنا لجامع عتيق ومعلم تاريخي من أبرز المعالم التاريخية في القاهرة والمنطقة العربية.
** **
- د. محمد أبو الفتوح غنيم