عبدالعزيز السماري
تونس حالة عربية مختلفة متفردة وتستحق القراءة المتأنية، فما يجري هناك يعد خروجاً عن النص في التاريخ العربي، فقد نجحت في احتواء الثورة الشعبية في أيام الغضب العربي، فلم تنهار الدولة، ولم يقفز العسكر إلى منصة الحكم، وكان الخطاب التونسي بمختلف تياراته الإسلامية والعلمانية موحداً تجاه الإرهاب والتدخل الخارجي في شؤونها، كما قدمت علاقات متحضرة في علاقاتها مع جيرانها.
قد تكون الثورة الشعبية في تونس سرقت النجومية في تاريخها الحديث، لكنها لم تكن الحدث الأهم في تاريخها، فقد كانت تونس ساحة كبرى للتحولات الاجتماعية والثقافية الكبرى، وكان من أهمها ما حدث منذ أكثر من خمسة عقود، عندما أصدر الرئيس التونسي الراحل أبورقيبة منع تعدد الزوجات، ولم يكن قراراً رئاسياً متفرداً، فقد سبقته فتوى للفقيه الطاهر بن عاشور وهو عالم وفقيه تونسي، أسرته منحدرة من الأندلس، وترجع أصولها إلى أشراف المغرب الأدارسة، وتعلم بجامع الزيتونة ثم أصبح من كبار أساتذته.
قدم الفقيه الطاهر بن عاشور اجتهاداً في قضية التعدد وكتب مطولاً في الأمر، وكان رأيه أن للحاكم أن يحد من الحلال إذا رأي فيه مضرة للمجتمع، ولست هنا لأحكم معه أو ضده، فذلك من شأن المتخصصين في الأمر، لكن الثابت في التاريخ أنّ ردة الفعل على ذلك القرار الإداري الشهير في تونس كانت أقرب للانفجار خارج حدود تونس، لكن المجتمع التونسي تقبلها بدون صخب أو ضوضاء ..
وصلت ردة الفعل خارجياً إلى حد تكفير الرئيس أبو رقيبة، واتهامه بعدائه للإسلام، بعد إصدار مجلة الأحوال الشخصية سنة 1956 وما ورد فيها من منع تعدد الزوجات، ولكن ما كان يخفى على الناس أن هذا الإلغاء قد تم على أساس نظرة مقاصدية للشريعة من قِبل فقهاء تونس، حسب تقليد الشاطبي والذي أكمله العلاّمة التونسي الطاهر بن عاشور، وذهب في نفس اتجاهه المفكر محمد عبده.
شارك الشيخ محمد الفاضل بن عاشور في اللجنة المكلفة بصياغة مجلة الأحوال الشخصية، وتمت استشارة محمد الطاهر بن عاشور صاحب التحرير والتنوير، والشيخ عبد العزيز جعيط في شأنها، وهو ما يعني أن التحولات التونسية كان مصدرها اجتهاداً دينياً مختلفاً، ويتجاوز النظرة المعيارية للشريعة ذات البعد الأصولي.
كان آخر التحولات الكبرى في المجتمع التونسي، ما أصدره ديوان الإفتاء في تونس منذ ثلاثة أسابيع، من دعم لمقترحات رئيس الجمهورية، ودعا فيها للمساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، وقد أخرج ديوان الإفتاء دينيا حسب اجتهادهم مقترح الرئيس التونسي، على أنّ فيه دعماً لمكانة المرأة وضماناً وتفعيلاً لمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، التي نادى بها الدين الإسلامي حسب تفسير العلماء التونسيين في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، فضلًا عن المواثيق الدولية التي صادقت عليها الدولة التونسية التي تعمل على إزالة الفوارق في الحقوق بين الجنسين.
كانت ردّة الفعل في غاية الحدّة والتجاوز أيضاً من الخارج فقط، ومن الناشط الإخواني وجدي غنيم، الذي كفّر رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي ومجلس نواب الشعب وراشد الغنوشي والنائب بحركة النهضة عبد الفتاح مورو، وجاء الرد عليه من كاتب عام نقابة الأئمة فاضل عاشور، أنّ المدعو وجدي غنيم ليس مؤهلاً لإبداء مواقف في مسائل شرعية لأنه مجرد داعية عرف باستغلاله للدين للإثارة وجلب أكثر مشاهدين لبرنامجه، مؤكداً أنّ هذا الداعية خطير على الدين لأنه يوظفه لخدمة أجندات مشبوهة تتمثل في تفكيك المجتمعات وإثارة الفتن بها.
خلاصة الأمر أنني في هذه العجالة وددت الإشارة بإيجاز إلى أنّ ما يجري في تونس يستحق النظر والتأمل، فالبلد العربي يمر في حالة مختلفة عن بقية العالم العربي، ولست هنا لأحكم على صحتها أو خطئها، فهناك من ذوي الاختصاص من هو المؤهّل في ذلك، والأيام ستبدي تبعاتها، لكن الملاحظ في الأمر هو حالة السِّلم والتجانس في المجتمع التونسي، كذلك تناغم الخطاب الديني مع المدني، لكن الأهم هو تطور مسألة الاجتهاد إلى مراحل مختلفة عن بقية العالم العربي.