أ.د.سليمان بن عبد الله أبا الخيل
فمن حكمة الله البالغة، وكمال نعمته أن شرع -سبحانه وتعالى- الحج لحِكَم ومقاصد عظيمة، وغايات وأسرار جليلة، تتجلى أهميتها، وحكمة الله في هذه الشعيرة كونها منبع العقيدة، وأصل التوحيد، وغاية العبودية لله تعالى، يقول الله سبحانه في محكم التنزيل: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}، ويقول ابن كثير -رحمه الله-: «هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله، وأشرك به من قريش، في البقعة التي أُسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فذكر تعالى أنه بوأ إبراهيم مكان البيت، أي: أرشده إليه، وسلمه له، وأذن له في بنائه»، ويقول في هذا السياق الشيخ عبدالرحمن السعدي -رحمه الله-: «يذكر تعالى عظمة البيت الحرام وجلالته وعظمة بانيه، وهو خليل الرحمن، فقال: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ}، أي: هيأناه له، وأنزلناه إياه، وجعل قسماً من ذريته سكانه، وأمره الله ببنائه، فعمّره على تقوى الله، وأسسه على طاعة الله، وبناه هو وابنه إسماعيل، وأمره أن لا يشرك بالله شيئا، وأن يخلص لله أعماله، ويبنيه على اسم الله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} أي: من الشرك والمعاصي، ومن الأنجاس والأدناس، وقد أضافه الرحمن إلى نفسه لشرفه، وفضله، ولتعظيم محبته في القلوب، ولتنصبّ إليه الأفئدة من كل جانب، وليكون أعظم لتطهيره وتعظيمه، فهو بيت الرب للطائفين به والعاكفين عنده، المقيمين لعبادة من العبادات من ذِكر، وقراءة، وتعلّم علم وتعليمه، وغير ذلك من أنواع القُرب».
والحج ركنٌ من أركان الإسلام، فرضه الله على المستطيع من عباده المسلمين، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، فهو مؤتمر إسلامي عالمي لجميع المسلمين من أنحاء العالم كلِّه، يجتمعون ويتآلفون ويتعارفون فيه، ليشهدوا منافع لهم على كافة الأصعدة، وفي شتى المجالات.
ولقد اصطفى الله هذه البقاع الطاهرة، والأماكن المقدسة لتكون مواطن شعائره، وشعائر مناسكه، وجعلها أساسًا لقيام الدين وصلاح العمل، وسببًا لدوام العز والنصر والتأييد، ولمقومات الفضائل والكمائل، كما ورد في قول الحق سبحانه: {جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ}، يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي -رحمه الله- معلقاً على هذه الآية: «يخبر تعالى أنه جعل {الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ}، يقوم بالقيام بتعظيمه دينُهم ودنياهم، فبذلك يتم إسلامهم، وبه تحط أوزارهم، وتحصل لهم -بقصده- العطايا الجزيلة، والإحسان الكثير، وبسببه تُنفق الأموال، وتتقحم -من أجله- الأهوال، ويجتمع فيه من كل فج عميق جميع أجناس المسلمين، فيتعارفون ويستعين بعضهم ببعض، ويتشاورون على المصالح العامة، وتنعقد بينهم الروابط في مصالحهم الدينية والدنيوية، قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ}».
ومن أسباب حماية الكعبة المشرفة وخدمتها: توفيق قادة هذه البلاد وحكامها وولاة أمرها، حيث شرفهم الله بهذه الأعمال الجليلة، وأناط بهم حمايتها ورعايتها وعمارتها، يستجيبون لأمر الله في قوله لخليله إبراهيم عليه السلام: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود}.
وإن المتأمل لحال الجزيرة العربية قبل قيام هذه الدولة المباركة السُّنية السلفية على يد القائد المجاهد البطل الفاتح الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن -غفر الله له- يدرك أنها كانت تعيش حالة سيئة، دينيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، حيث شاع فيها السلب والنهب والفقر والخوف، مع ما واكب ذلك من عصبية جاهلية، وتفاخر وتناحر، وشقاق ونزاع وخلاف واختلاف عمّ وطمّ، وشاع وذاع، حتى أصبح أهلها شذر مذر، للظلم بينهم جولة، ولقطاع الطرق صولة وسطوة، وللبدع والخرافات والجهل ظهور ونشوة، الأمر الذي معه لا يأمن الإنسان على نفسه وعرضه ودينه وماله، هذا بصفة عامة.
أما حال قاصدي الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة للحج أو العمرة أو الزيارة بصفة خاصة فهو محزنٌ مبكٍ، قتل وسلب ونهب، القوي يأكل الضعيف، تخرج القافلة المكونة من العدد الكبير إلى الحج فقد تصل إلى البلد الحرام وقد لا تصل، وبالتالي فإن من يعود إلى أهله بعد أداء نسكه يكون في حكم المولود الجديد، وقد عرفنا ذلك من الكتب، وسمعناه من آبائنا يحكونه عن آبائهم وأجدادهم الذي عايشوا ذلك.
وبفضل الله ثم بإخلاص واحتساب وجهاد المؤسس لهذا الكيان العظيم الملك عبدالعزيز صاحب الأيادي البيضاء، والمجد التليد، الذي بذل نفسه وولده وماله من أجل إعلاء كلمة التوحيد، وترسيخ المعتقد الصحيح، والمنهج السليم، وتطبيق شريعة الله، وتنفيذ حدوده وأحكامه، فتبدل الخوف أمنًا، والفقر غنى، والظلم عدلاً، وتبددت سحب الظلام، وانكشفت بإذن الله الغمة، وانفرجت الكربة، واطمأن الحاج، وتوسعت الدنيا على المحتاج، وانحسر أهل الشر والفساد، وفر الأشرار وأرباب العناد، واندحر أصحاب الجور والهوى والشهوة والشبهة، وأنار التوحيد الخالص أرجاء الجزيرة بل وتعداه إلى أنحاء المعمورة، وفاح عبق المعتقد الصحيح الممتزج بسلامة المنهج في كل شبر من بلادنا الحبيبة، حتى صار مسكًا فواحًا، وعنبرًا صداحًا، وروحًا وريحانًا.
ولما شرفت المملكة العربية السعودية بخدمة مهبط الوحي، وقبلة المسلمين التي يتوجهون إليها في صلواتهم ونوافلهم، ومتطلع أفئدتهم ومقصدهم لأداء مناسك الحج والعمرة أو الزيارة، فقد جعل جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن -رحمه الله- جُل عنايته، وفائق اهتمامه، وكبير جهده، ومعظم وقته في خدمة الحرمين الشريفين من توسعة وتهيئة لكل ما هو ممكن في جميع المجالات من أجل أن يستطيع قاصدو البيتين الشريفين من تأدية مناسكهم وشعائرهم وعباداتهم بيسر وسهولة واطمئنان وأمن وأمان، واستمرت هذه الجهود المباركة، والنظرة الخاصة والمتابعة الدقيقة الصادقة من قبل أبنائه البررة الميامين حتى تقلد زمام الأمور وولاية الأمر، وإدارة سدة البلاد من لقب نفسه بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -أيده الله- حبًا لهما وإخلاصًا لدينه ووفاءً لعقيدته ورعايةً لوطنه وأبنائه بصفة خاصة، والمسلمين بصفة عامة، ولهذا قدّموا هذا العمل على كل شأن، وجندوا أنفسهم، وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل تحقيق هذا الهدف السامي، وتعبيرًا عن هذا النهج خلعوا عن أنفسهم الألقاب المستحقة، ليجعلوا خدمة الحرمين الشريفين لقبًا يتشرفون به، وشعارًا تصدقه أعمالهم وجهودهم التي تقدم لكل قاصد لهذه البقاع المقدسة مهما كان جنسه، ومذهبه، وانتماؤه، فيُخدم دون منّة أو أذى، فكانت هذه المنجزات العظيمة، والخدمات الجليلة، والأعمال النوعية التي خُصت بها البقاع المقدسة والمشاعر أبلغ دليل على أن هذه الأعمال يؤطرها التجرد لله عن أي أغراض سياسية أو دنيوية، وبهذا أعز الله هذه الدولة وحفظها ومكّن لها، ومنحها أسباب التوفيق، وزادها أمنًا وأمانًا واطمئنانًا، وحفظها في ظل المتغيرات والأحداث، وهذا التميز الذي حظي به الحرمان والمشاعر كان حاضرًا في التخطيط الذي تتجه إليه الدولة، لتكون الأولوية لهذه البقاع في كل خطة أو رؤية، فكانت القرارات الكبرى، والرؤى الاستراتيجية تعتمد هذا التميز في كل خطة أو عمل، لتحظى هذه البقاع الطاهرة بأعلى عناية، وأميز خدمة، ولتكون في مأمن من التحولات والهزات الاقتصادية، وشاهد ذلك ما ورد في رؤية المملكة العربية السعودية 2030م، فقد ركزت الرؤية على توسعة هذه الخدمات الجليلة التي تقدم للحجاج والمعتمرين والزائرين، انطلاقًا من العمق الإسلامي، والتشريف الإلهي لهذه البقعة المباركة، وتهدف لزيادة الطاقة الاستيعابية لاستقبال ضيوف الرحمن المعتمرين منمانية ملايين إلى 30 مليون معتمر، من خلال تسهيل الإجراءات وتطوير الخدمات، والارتقاء بجودتها، وصولاً إلى تمكين ما يزيد على 15 مليون مسلم من أداء العمرة سنويًا، وتنفيذ توسعة ثالثة للحرمين الشريفين، وتطوير المطارات، وزيادة طاقتها الاستيعابية، وإطلاق مشروع «مترو مكة المكرمة» استكمالاً لمشروع قطار المشاعر المقدسة وقطار الحرمين، بالإضافة إلى تعزيز منظومة شبكة النقل من أجل تسهيل الوصول إلى الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة وتمكين ضيوف الرحمن من أداء فريضة الحج والعمرة والزيارة بكل يسر وسهولة.
وهذه الجهود سارت بها الركبان، وشهد بها القاصي والداني، وكل من كتب الله له أن يزور هذه البقاع يحدث عما خص الله به وطن الإسلام، وما هيأ الله لأجله القيادة من خدمات نوعية، لم يمر لها نظير في التاريخ، فصار الحاج والمعتمر وقاصد هذه البقاع يشعر بهذه الأجواء الإيمانية، والخدمات النوعية، والتطور السريع الذي تقدمه المملكة هدية منها لكل مسلم فوق كل أرض وتحت كل سماء، واستمرارًا للعطاء، ومواصلة للجهود المباركة الخيرة التي بدأها ووضع لبنتها الأولى مؤسس هذا الكيان العظيم، الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن -رحمه الله- حتى آتت ثمارها اليانعة، ونتائجها السارة في هذا العهد الميمون الزاهر، عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -أيده الله-، الذي تلاقى فيه تراث الأجداد التليد العتيد بوفاء الأبناء والأحفاد المجيد، فاتضح من خلاله قوة الأسس، وسلامة البناء، وصدق التوجه المفعم بصحة المعتقد والتوحيد الخالص، القائد إلى صدق الولاء وسلامة المنهج، ولذلك فإن كل من أدى مناسك الحج في الأعوام الماضية رأى ما يثلج الصدر، وترتاح له النفس، وتقر به العين، ويلهج بسببه اللسان بالدعاء لمن قاموا عليه، وتابعوه وعملوا على بذل جهودهم وإمكاناتهم المادية والمعنوية من أجل إنجاحه وإظهاره بالصورة المطلوبة والمرغوبة، حيث جاء دائمًا منظمًا مرتبًا متسلسلاً ناجحًا نجاحًا باهرًا منضبطًا في حركة سياراته ومشاته، ومراقبته مراقبة دقيقة من حيث أماكن اختناقاته، مما يجعل الجميع يثنون ويشكرون ويدعون لولاة أمر هذه البلاد.
ولقد كان لما عَمل ويُعمل في جسور الجمرات وغيرها في المشاعر المقدسة من توسعة وتنظيمات بأمر من ولي أمر هذه البلاد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- أثر واضح في الإيجابيات والمميزات التي حصلت ونتطلع إلى المزيد مما يسعى إليه -وفقه الله-، والأعظم من ذلك والأروع الذي أصبح مضرب المثل ومحط الإعجاب والافتخار والاعتزاز تلك التوسعة المنقطعة النظير للحرمين المكي والنبوي، التي أولتها دولتنا الرشيدة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وسمو ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز -حفظهما الله- جُل الاهتمام والعناية وبذلت من أجل إتمامها وتنفيذها المقدرات والإمكانات الهائلة، وإذا أضيف إلى ذلك تلك التوسعة الرائدة الرائعة النافعة المنطلقة من مبادئ الشريعة وسعتها وسماحتها والمتمثلة في توسعة المسعى التي كان لها آثار إيجابية قوية، وكذلك الخدمات المتميزة والظاهرة والملموسة والتي تؤدى فيهما من سقاية ونظافة ورعاية ومتابعة واهتمام بالغ، كانت النعمة أعظم، وشكر الله أوجب، والاعتراف لأهل الفضل بفضلهم يطلب، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، خصوصًا في موسم حج هذا العام 1438هـ الذي تميز بالخدمات الجليلة، والتنظيم البديع، والنجاح الباهر، مما يضاف إلى إنجازات بلادنا الغالية، فحققت في ذلك الأهداف، وأوصلتها إلى النتائج، لتؤكد الرسالة والمنهج في السياسة العادلة القوية، والاقتصاديات المتطورة، والإدارة الناجحة، والقوة العسكرية القاهرة الحامية بعد الله من الأعداء والاعتداء في موسم الحج، وكان هناك من يراهن على فشل الحج، وقيام المظاهرات، وفشل التنظيم، إلا أنه خابت آمالهم، وفشلت مساعيهم، وباءت ظنونهم بالبوار، والإنسان المنصف الذي يتميز بالموضوعية والنزاهة، ويبحث عن الحق، وميزانه العدل يدرك إدراكًا تامًا وقاطعًا ويعتقد اعتقادًا جازمًا أنه لا يمكن أن يقوم بهذه الأعمال ويؤدي هذه الخدمات الهائلة للحجاج أمنية كانت أو صحية أو سكنية، أو غذائية، أو إركابية أو غيرها سوى هذه البلاد، بل لا أكون مبالغًا إذا قلت إن ذلك لا تستطيعه ولا يمكن أن تقوم به جميع البلدان الإسلامية مجتمعة على ما هي عليه الآن، فماذا يريد دعاة الفتنة والتسييس وأرباب الباطل إلا الظلال وإفساد أمن الحج وأمانه والنيل من بلاد التوحيد والسلام.
إن دولتنا الرشيدة، وحكومتنا الفتية في قيامها بهذه الجهود والمنجزات لا تحركها البواعث السياسية، ولا تميز في خدماتها من قدم إلى هذه البقاع تحقيقًا لقوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}، وهذا كما هو ديدن هذه الدولة فهو حُكم الله -جل وعلا- الذي شرع الحج والشعائر لتحقيق توحيده، وإقامة ذكره، وإحياء شريعته، يقول سبحانه: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ}، ورغم هذه الجهود والأعمال إلا أن بعض دول المسلمين وفئامًا منهم يرون في الحج فرصة لتحقيق أغراض ومكاسب سياسية، والمزايدة بشعارات يحولون بها الحج إلى بؤرة للصراعات، وتأجيج الطائفية والمذهبية، وإذكاء نار الفرقة والاختلاف، وما الموقف الأخير الذي يصر عليه النظام القطري ومن قبله حكومة إيران إلا شاهد على هذا، فيريدون بذلك الفتنة والشرّ لهذه الأمة، ومن هنا فإن المعول على أهل العلم ليبينوا حكم الله ويظهروا المقاصد الشرعية في هذه الشعائر والأحكام، ويقدموا هذه الأحكام بعيدًا عن المهاترات والمزايدات، والشعارات والتزييفات.
إن المتأمل للمشاعر المقدسة يرى أمورًا عجبًا من حيث التضاريس والمناخ: جبال شاهقة، وشعاب ضيقة، وطرق وعرة، وحر شديد، وشمس محرقة، وإذا أضيف إلى ذلك العدد الهائل والجمع الغفير من الحجاج الذين يعدون بالملايين يزداد العجب والاستغراب، وبفضل من الله -العلي القدير-، ثم بتلك الجهود العظيمة التي تقوم بها المملكة، والتي لا حدود لها، ذُللت تلك الصعاب، ورُوضت تلك الأماكن، فأصبحت مكانًا آمنًا مطمئنًا سهلاً ميسرًا يجد فيه الحاج بغيته، ويصل إلى غرضه، ويحقق رغبته، ويؤدي مناسكه براحة وخشوع.
إن الذي يشد انتباه الإنسان ويدهشه مع اعتزازه وافتخاره ذلك الحضور الفاعل والوجود المكثف والمستمر والمتميز لرجال الأمن في كل وقت ومكان على اختلاف مراتبهم، وتنوع اختصاصاتهم ليقوموا بخدمة ضيوف الرحمن، وإعانتهم، والحفاظ على أنفسهم وممتلكاتهم ومساكنهم، ورغم ما يواجهونه من ضغط العمل، ومواقف محرجة لا تتصور، إلا أنهم يتميزون بأخلاق دمثة عالية، وآداب جمة راقية في التعامل مع الحجاج، رائدهم في ذلك تعاليم دينهم الحنيف، مع الإخلاص والاحتساب في خدمة دينهم وعقيدتهم وبلادهم وولاة أمرهم، ولا غرابة في ذلك مادام أنه يقف وراءهم ويوجههم ويشرف عليهم ويتابع أعمالهم بدقة وبصورة لا مثيل لها ذلك الرجل المتميز، والمدرك الواعي، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع -حفظه الله-.
إن كل ما تقوم به هذه الدولة المباركة مما يخدم ضيوف الرحمن تقدمه بنفسٍ راضيةً مرتاحة، ولا تقصد منه رياءً ولا سمعة، وإنما تقصد به وجه الله، وخدمة الإسلام والمسلمين فوق كل أرض وتحت كل سماء، ولذلك فهي مستمرة في بذل كل ما يستطاع من أجل تسهيل وتيسير أمور الحج، وأكثر ما تقوم به في هذا المجال يتم بهدوء وصمت مما يجعل الأعمال هي التي تتحدث، وليس هناك دليل على ذلك أكبر من ذلك المشروع الهائل والناجح والذي كلف الكثير والكثير من الوقت والجهد والمال، أعني به: مشروع الخيام المضادة للحريق، وما جهزت به من تجهيزات متطورة ومتقدمة تجعل الحجاج أكثر طمأنينة وارتياحًا، حيث إن كثيرًا من الناس لم يعلموا عنه حتى أصبح واقعًا حيًّا يستفاد منه، ولا تزال الدولة وفقها الله مستمرة في التطوير والتحديث، واستثمار كل الوسائل والأساليب الممكنة لضمان سلامة الحجاج وراحتهم، وهذا لا يعني عدم وقوع بعض الحوادث البسيطة في مواسم الحج، وإن كان وقوعها في الغالب راجعاً إلى تصرفات الحجاج التي تنطلق من قلة وعيهم، وعدم معرفتهم بما يجب عليهم في أحكام مناسكهم، وما ينبغي لهم أن يتبعوه في تحركاتهم.
ونحن في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية حرصنا على تحقيق تطلعات ولاة الأمر، والمشاركة الفاعلة في موسم الحج، على كافة الأصعدة، فالجامعة كانت حاضرة في موسم حج هذا العام 1438هـ عبر إشرافها على البرنامج العلمي لضيوف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- من الحجاج القادمين من الولايات المتحدة الأمريكية لأداء فريضة الحج، وذلك بالتنسيق مع سفارة المملكة العربية السعودية في واشنطن، وقد تضمّن برنامج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله-، لحجاج أمريكا برنامجاً علمياً شرعياً عن موضوعات العمرة والحج، وما يتوجب على الحاج فعله وتجنبه خلال تأديته هذه الفريضة العظيمة، كما تضمن البرنامج العلمي لقاءات الوفد مع أصحاب السماحة والفضيلة من العلماء والمشايخ الموجودين في المشاعر المقدسة، وكبار المسؤولين لخدمة حجاج بيت الله الحرام، ولقد اطلع الوفد على جهود المملكة المتميزة في العناية بالحرمين الشريفين عمراناً وتنظيماً، والعناية الفائقة بالمصحف الشريف طباعة وتوزيعاً، وما يتصل بذلك من جهود مباركة تبذلها القيادة الرشيدة، والجامعة تفخر بالإشراف على هذا البرنامج العلمي للوفد الأمريكي الذي يضم عدداً من الشخصيات المؤثرة في المجتمع الأمريكي الذين يصل عددهم إلى 32 شخصية.
كما أن الجامعة شاركت عبّر ما يزيد على مائة وعشرين طالباً من طلاب المنح مع البنك الإسلامي للتنمية في مشروع الإفادة من لحوم الهدي، إلى جانب مشاركة عشرات الطلاب من الجوالة والكشافة الذين يسهمون بشكل واضح في أعمال الحج، وخصوصاً الدلالة والإرشاد للحجاج وإعانة المحتاجين منهم، إلى جانب مشاركة أعضاء هيئة التدريس بالجامعة في التوعية الإسلامية في الحج وفي برامجه العلمية والإرشادية والإفتائية، وهي ترى ذلك واجبًا من واجباتها، وجزءًا من مسؤولياتها؛ لتحقيق رؤية ولاة الأمر في هذه الجامعة، ومساهمةً في أعمال موسم الحج لهذا العام.
وفي الختام أسأل الله العلي القدير بمنّه وكرمه أن يكتب هذه الجهود العظيمة في خدمة حجاج بيت الله وقاصديه في ميزان حسنات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز -حفظهما الله- وأدعو الله -سبحانه وتعالى- أن يحفظ هذه البلاد من كل سوء ومكروه، وأن يتقبل من الحجاج حجهم ويمنّ عليهم بالقبول والإحسان، وأن يحفظ على هذه البلاد أمنها ورخاءها واستقرارها، وأن يحفظ ولاة أمرنا من كل سوء ومكروه، وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يدفع عن هذه البلاد مكر الماكرين، وفساد المفسدين، وعدوان المعتدين إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.