كانت الفُرسُ قديمًا إنْ أرادوا التنكيلَ بأحد لا يكتفون بسجنِه فقط! بل بتعذيبِه بطريقةٍ يرونها مِن أشدِّ الطرق إيلامًا وأكثرها وجعًا! فقد كانوا يسجنون الشخصَ المرادَ تعذيبُه مع جاهلٍ؛ فيتضاعفَ عليه الألمُ، ويتزايدَ الهمُّ، وتضيقَ عليه الدنيا بما رَحُبَتْ!
ولا شيءَ يزيلُ الجهلَ مثل القراءة، وقديمًا قال حكيمٌ: «شيئان فيك ما لم يتغيرا فلن تتغير؛ ماذا تقرأ، ومَنْ تصاحبُ!» ومشكلة البشرية كما قرَّر (د. بكار) لا تتمثلُ في ارتفاع نسبِ الطلاق، ولا في تفشِّي المخدِّرات، ولا في تكاثُر معدلاتِ البطالة؛ بل هي في عدم القراءة! وهي السببُ في كلِّ إخفاقاتِنا ومشكلاتِنا! وما كذبَ (فولتير) عندما جزمَ بأنَّ مَنْ سيقود العالم هي الأممُ التي تقرأ! وأقول: وهذا الأمرُ ينسحبُ على الأُسَر وحتى على المنظَّمات؛ فعندما ترى بيوتًا أو منظَّمات يهتمُّ مَن فيها بالقراءة والاطلاع فغالبا تكونُ قدرتهم على إدارة الحياة أفضلَ بكثيرٍ ممن لا يقرؤون! وإنْ أردتَ الوقوفَ على تلك الحقيقة فتأمَّل في حال مَن يقرأ ومَن لا يقرأ وقارِن بينهما! ستجدُ بونًا شاسِعًا وفارقًا هائلاً!
شتّانَ ما بين اليزيديْن في الندى
يزيدَ بنِ عمرو، والأغرِّ ابن حاتمِ
فهمُّ الفتى الأزديِّ إتلافُ مالِه
وهمُّ الفتى القيسيِّ جمعُ الدراهمِ
وكم أشعرُ بالغُبن عندما أرى الاعتناء البالغ بالقراءة في الغربِ؛ فلا تجدُ أحدَهم في مكانٍ عامٍ مُنشغِلاً بمتابَعة الناسِ أو بقال وقيل! بل تجد أنَّ السوادَ الأعظمَ قد عانقَ كتابًا ومضى معه في رحلة ماتعةٍ مشوِّقةٍ، بل ووجدتَ مِن الأمهاتِ مَنْ تضع كتابًا أمام طفلها الرضيع وهي تدفعُ عربتَه؛ حتى توطِّدَ علاقتَه بالقراءةِ منذ الصغر! فأيُّ حياةٍ تُعاشَ بوسائلَ فهمٍ بسيطةٍ، وأدواتِ تصوُّرٍ محدودةٍ، ومصادرَ تلقٍّ شحيحة! وكم هو مؤسفٌ أنَّ نجدَ هذا الشرودَ والصدودَ عن القراءة عند أُمَّةٍ كان أولُ ما أُمِرَتْ به هو القراءةُ!
ومِن المفارَقاتِ أنه ربما يُنظَرُ إليكَ في مجتمعاتنا بنظرةِ استغرابٍ واستهجانٍ عندما تنشغلُ بكتابٍ، وتخلو بسِفْر!
إذا مَحَاسِنيَ اللاّتي أُدِلُّ بِهَا،
كانَتْ ذُنُوبي فقُلْ لي كَيفَ أعتَذرُ؟
في كتابِ (الوصايا العشر) كتب الأديبُ الجميل (خالد محمد خالد): «لو أننا تصوَّرْنا أحقَّ الكلماتِ بأنْ تكونَ بدءَ الوحي إلى محمد – صلى الله عليه وسلم – لتصوَّرْنا بأنْ تكونَ: صلِّ، اعبُد، آمِن... بيد أنَّ الذي حدثَ أخلفَ الظنونَ، وبهرَ الألبابَ!! إذْ كان أولُ تكليفٍ تلقاه الرسولُ – عليه الصلاة والسلام – من ربِّه عزَّ وجلَّ، هو «القراءة».. وأولُ كلمةٍ أُلقِيَتْ عليه هي: «اقْرأ»!»
دينٌ يحثُّ على العلم ويحرِّضُ على المعرفة، ويدعو للارتقاء بالتفكير والسلوك والاستفادة من إبداعاتِ البشَر مِن الخير، والقراءةُ هي الوسيطُ القويُّ لكسْبِ الآدابِ وجميلِ الأخلاقِ، وهي الصفةُ التي تميِّزُ الشعوبَ المتقدِّمة التي تسعى دومًا للرقي والصدارة! قال (عمرو بن العلاء): «ما دخلتُ قطُّ على رَجُلٍ ولا مررتُ بدارِه، فرأيتُه في بابِه فرأيتُه ينظرُ في دفتر وجليسُه فارغٌ إلا حكمْتُ عليه أنه أفضلُ منه عقلاً»! ولما مَرِضَ (ابنُ تيميةَ) رحمَهُ اللهُ، دخلَ عليه الطبيبُ فوجدَه مُنهمِكًا في القراءة، فقال له الطبيبُ: «عليكَ بالراحةِ والسكونِ»، فردَّ عليه الشيخُ بقوله: «وإنني أجدُ راحتي وعافيتي في القراءةِ»!
والقراءةُ تختصرُ المسافاتِ وتسهِّلُ الحياةَ، وهي سياحةٌ جميلةٌ في العقولِ؛ (فالعقّادُ) عندما سُئل لماذا تهوى القراءةَ؟ ردَّ بِرَدٍّ عجيبٍ وقال: «لأنَّ عندي حياةً واحدةً في هذه الدنيا، وحياةٌ واحدةٌ لا تكفيني!» وتلك الحيواتُ هي حياةُ العلماء والكتّاب والمفكرين والفلاسفة الذين يقرأ لهم! وذكر الذهبيُّ في (السِّيَر): عن نُعيم بن حمّاد قال: «كان ابنُ المبارك يُكثِر الجلوسَ في بيته، فقيل له: ألا تستوحِشُ؟ فقال: كيف أستوحِشُ وأنا مع النبيِّ - صلّى اللهُ عليه وسلَّم - وأصحابِه؟!»
كم تضيعُ مِن الأموالِ والأوقاتِ على ما لا ينفعُ! وأحيانًا – والله- فيما يضرُّ ويُفسِدُ! وللأسف، إنَّ البعضَ يستخسرُ دراهمَ معدودةً على كتاب ينفعُه! ووالله، لو أنفقَ بشَرٌ شطرَ مالِه وكثيرًا من وقته على كتابٍ يستفيدُ منه في آتي أيامِه ماعُدَّ ذلك هدرًا للمال، ولا ضياعًا للوقتِ!
والمتأملُ في أحوالِ المبدعين والعظماء يُدرِكُ أنه ما مِن عالِمٍ كبيرٍ، ولا مخترِعٍ عظيمٍ، ولا مُجَدِّدٍ عبقريٍّ إلّا وكانت القراءةُ الواعية المستمرة وسيلتَه إلى العلم والاختَراع، ومنهم (فيلو فرزان) مخترعُ التلفزيون، الذي كان تلميذًا مُحِبًّا للقراءة، وقد قرأ كلَّ ما في مكتبةِ المدرسة عن الصوتِ والضوءِ والسينما الصامتة، وكانت غايتُه أنْ يجمعَ بين الصوتِ والصورة، فظلَّ يقرأ قراءةً واسعةً حتى توصَّلَ إلى ما رَغِبَ فيه، وقيَّد اختَراعَ التلفزيون باسمه، وسطَّرَ لنا التاريخُ نماذجَ مُشَرِّفَةً جعلَت العلمَ همًّا مُقدَّمًا، ومنهم الأديبُ الفقيه الموسوعيُّ الشيخ (عليّ الطنطاويُّ) والذي كانَ يقرأ عشْر ساعاتٍ يوميًّا ويقولُ عن نفسِه: «قرأتُ أكثرَ من مليون ومئتي ألف صفحة في حياتي!» ومن عرَف هذا العملاقَ فهم الآن لماذا كان يستطردُ كثيرًا في حديثِه - رحمهُ اللهُ؟ فما كانَ هذا الاستطرادُ إلا لوجودِ أمواجٍ هادرةٍ من العلم في صدرِه!
تأكَّدْ أنَّ تحوُّلاً كبيرًا في حياتِك ستصنعه القراءةُ على كافة المستوياتِ؛ ستجعلُ منكَ مواطنًا صالحًا، وأبًا فعّالاً، وموظفًا ناجحًا، وصديقًا عاقلاً محبوبًا؛ فاجعل من القراءة عادةً لك.