د.فوزية أبو خالد
ليس مقدمة ثانية
حين تصير مواجهة الموت حياة
حين نحيا لنقاوم الموت
حين لا نفر من الموت لأنه ملاقينا
حين نحيا لنحيي أرواحًا حرمها الله على اليأس
حين نقرأ كتابًا فنخرج من محدودية ما نعرف إلى مدى المعرفة اللامحدود
حين كتاب من 190 صفحة يجعلنا نواجه كمرآة شخصية لا مراء فيها مقدار ما نجهل عن أنفسنا وعن يقين يبدو كأنه شك مع أنه اليقين الوحيد في أحوال البشر، وهو يقين الموت.
حين نقرأ كتابًا فندخل حياة جديدة كأننا كائنات غرة لم ندخل دنيا بعد, قبل أن نفتح الصفحة الأولى من الكتاب ونغلق الصفحة الأخيرة.
حين نطرق كتابًا بأجسادنا القديمة التي لا نكاد نحملها على جرنا خلف عربة العمر ليوم آخر, حين ندخل كتابًا بالأجنحة المجرحة لأحلامنا التي لا تكاد تحلق بنا فوق سقف، وحين نقرأ بعقولنا شحيحة الأوكسجين التي بالكاد نستطيع التنفس بها... حين نقترف كل ذلك ليس لغرض آخر من قراءة الكتاب إلا لمجرد تزجية ما تبقى لنا من الوقت.. فإنه لعمري مخاض ولادة لم تكن على بال ألا نستطيع الخروج من بين ضفتي ذلك الكتاب أو ضلفتيه إلا وقد تجددت خلايانا وأخيلتنا معًا. وهذا الميلاد أو التخلق الجديد هو الرمز الحقيقي لكتاب يفوق الوصف ويتفوق على الواقع وعلى قسوة الحقائق العلمية.
حين وحيدًا تقرأ كتابًا فلا تعود وحيدًا بل تتعدد نفسك وروحك ووجوهك ويداك وقامتك وحواسك فترى بأوسع من عينين، وتسمع بأكثر من الإصغاء المرهف لأذنين، وتشعر بما هو أكثر من العاطفة المعهودة، وتفكر بأعمق من معدل الإيقاع المعتاد للحياة اليومية, فإن ذلك كفيل بأن يخرجك على ذلك الدور المحدود كقارئ يقرأ بهدف المعرفة، ويضعك أمام تحدي القراءة الحقيقي, وهو تحدي تحول القراءة من فعل معرفي ذهني محض إلى فعل معرفي معاش. ومن حالة معيشية تعاش بغفلة المسلَّمات إلى حياة تعاش بترف وشغف الوعي.
ولهذا كان رأي الصنديه تايم أن هذا الكتاب يجب أن يكون مقررًا أساسيًّا من منهج دراسة الطب لتعليم أطباء المستقبل معنى الحياة الذي لا بد أن يكون جزءًا نظريًّا وميدانيًّا من علاقتهم بالمرضى.
حين يكون من أحيا نفسًا كأنه أحيا الناس جميعًا،
حين يكون هناك من هو بجبروت وشفافية أن يكتب بألمه اليومي أملاً خالدًا
عندها تصير القراءة نوعًا من تناسخ الأرواح الحية بين بعضها البعض, فيحل الكاتب فينا أو نحل فيه؛ لنعيش أكثر من حياة دفعة واحدة، ولنتأمل الحياة ونفكر فيها بالطاقة الخلاقة لتفاعل أكثر من عقل إزاء قضية واحدة أو قضايا متعددة.
وعندها أيضا لا يعود أي منا ذلك القارئ «المجهول» الذي طالما أطلقت عليه صفة تعميمية هلامية كقول «جمهور القراء» أو «القراء الأعزاء», يحدث هذا ليس لأنك أو لأني لن نكون من مجموعة القراء ولكن لأنني ولأنك سنصبح بعد القراءة الأولى لكتاب الزفرة الأخيرة ذلك القارئ الذي يكمل الكتاب بإعادة القراءة وإعادة التفكير، وربما بإعادة الكتابة ليس لهذا الكتاب بالذات بل لكتاب الحياة نفسها.
***
ليس خاتمة أولى
حين تكون تعمل ما يسمى عملاً لثماني ساعات يوميًّا أو حتى لعشرين ساعة، وتلجأ بعد ما تعده عناء العمل إلى كتاب فيأخذك السطر تلو السطر والصفحة تلو الصفحة من دعة ما كنت تحسبه عملاً إلى بطولات العمل الطبي... بأن تعمل ستًا وثلاثين ساعة متواصلة في عمل تؤديه واقفًا على قدميك منحنيًا عليه بقامتك, بوجهك، بروحك, مستغرقًا فيه بكلتا ساعديك وبكل ما تملك من حدة الحواس ومن تركيز الفكر ومن يقظة الضمير, (بينما ليس لك أن تشكو تعبًا ولا وصبًا ولا أن تتنهد تنهيدة قد لا تسمعها إلا أمك)؛ لأنك ببساطة لا تتنفس الأمن خلف كمامة وأمام أمانة جسيمة ويداك اللتان يشرخهما ملمس بلاستيك القفازات، ولا تشم إلا أثير البنج، ليستا يديك، بل يد الجراحة وقسمها الغليظ.... عندها لن يكون لك إلا أن تكون ذلك الطبيب الفنان الذي قدره أن يرسم، يكتب، يعزف، يمثل، ينحت الجراح بروح فارس.
***
ليس من خاتمة أخيرة
حين يكون المرض هو العدو البشري الأول للفرد، وتكون قد وطدت حياتك كلها على محاربة هذا العدو، ونذرت عمرك لفض أسرار الفناء عبر منازلته؛ لتصعق أنك في ريعان العمل وفي شرخ الأمل قد وجدته يساكنك جسدك الفتي بأضرى ما عنده من أسلحة السرطان سريع الانتشار، فماذا عساك فاعل يا فتي؟!
تأمل بول في كتابه مراحل المواجهة بروح فلسفية حرة، لم تخلُ من مرح بالمعنى الوجودي لا بالمعنى العبثي وحسب، ولم يمحُ الأسئلة
هل تنكر, تنتحب, تفزع, تنسحب, تناطح, تصارع, تجزع، أو هناك خيار آخر لا تعرفه إلا تلك القلة التي لا تموت كما قال ميل جيبسون بصوت وليم وليس في فيلم قلب شجاع «كل الناس تموت قلة يحيون».
لقد كان د. بول كالانيثي بجدارة وجرأة وسيظل واحدًا من أولئك البشر الذين لن يموتوا.
تحية لدكتورة لوسي كالاثيني على بطولتها السافرة والخفية في مقاومة بول للموت بالحب وبدفء الحياة الأسرية.
وقبلة في الهواء لابنتهما كايدي التي شكل الحمل بها وولادتها واحدًا من أقوى أشكال المقاومة الناعمة لبول ولوسي منذ اللحظة التي كانت هاجسًا في علم الغيب وطيف أمنية لهزيمة المنية.
أترككم مع الكتاب، وأذهب لإعادة قراءة الكتاب من جديد.
حين النفس يصير هواء كتاب جدير بالترجمة إلى اللغة العربية للمولعين بمد عرائش الفكر وكرمة العقل والعاطفة بين الشعوب.