خالد بن حمد المالك
زرت قطر كثيراً، وكان ذلك قد تم في كل مراحل العمر، فيها ماهو للسياحة، ومنها ماهو في عمل وزيارات رسمية، كانت قطر في بدايات زياراتي أشبه بقرية صغيرة، تفتقر إلى مقومات الحياة الحقيقية، ويغيب من تركيبتها السكانية هذا العدد الكثير من الأجانب الذي نراه الآن، بيوت طينية، وشوارع ضيقة، ومظهر يغلب عليه الطابع القروي الذي كان سمة بعض قرى المملكة في ذات الفترة.
* *
اكتشف النفط والغاز بكميات تجارية كبيرة، وتدفقت الأموال بشكل أكبر من حاجتها ومن قدرتها على استيعابها في مشروعات صناعية واستثمارية، فبقيت قطر تتطور ببطء معمارياً، مع إغفال الاستثمار في إنشاء المصانع والشركات ذات المردود الاقتصادي الجيد متى ما خف الاعتماد على النفط، أو كان الغاز خارج الاهتمام مع الاكتشافات الجديدة بعدم الضرورة للاعتماد على النفط.
* *
هذه الإمكانات المادية الهائلة بعثرها النظام القطري، أو جزءاً كبيراً منها، في الصرف على المؤامرات، وفي الإنفاق على الإرهاب، وفي شراء ذمم الإعلاميين، وخص دولاً بعينها في الصرف على تنظيم انقلابات على أنظمتها، ومضى على هذه السياسة محرضاً ومناصراً للتطرف، ولم يكتشف حجم جرائمه إلا حين أخذت الدول الأربع بسياسة العصا الغليظة لإيقافه عن هذا التآمر على مصالحها وأمنها واستقرارها.
* *
ما نقوله ونكرره ينبع من حرصنا على قطر بأن تكون دولة مسالمة، ومتفهمة لمسؤولياتها، وحريصة على بناء علاقات أخوية متوازنة مع جيرانها، فهي دولة صغيرة لا قدرة لها على تحمل تبعات كل هذه السلوكيات في سياساتها، وإذا ما مضت في ذلك، فسوف تزيد من عدد أعدائها، وبالتالي تتضخم عداوتها، وتجبر المتضررين لأخذ مواقف حازمة منها.
* *
ما مصلحة الدوحة بكل هذا، ولماذا تبطن الشر على هذا النحو الذي انكشف أمام الملأ، أظن أن هناك من غرَّر بالنظام، ولعله نظام ولاية الفقيه، أو تنظيم الإخوان المسلمين، أو حزب الله، أو الإعلام المحسوب على قطر، أو كل هؤلاء، وربما غيرهم أيضاً، ما نحسب أنهم قد أغرقوها بعد أن أغروها بأنها ستكون دولة عظيمة وكبيرة ومهمة بين دول العالم، فتم تخديرها بهذه الوعود البراقة التي سال لها لعاب حمد وحمد وتميم.
* *
أنا أتحدث عن شيء مشاهد وملموس، بما لا يغيب عن العين، وباتساع دولة قطر الصغيرة، ولا أتحدث من خيال، ولا أقول بما لا وجود له ضمن إطلالتنا على قطر الحبيبة، فهذه حقائق، ووقائع، يراها ويسمع بها كل من أثارته السياسة القطرية، وتوقف عندها، وراهن على فشلها أو نجاحها في تبنيها للإرهاب والتطرف والتحريض، بما لا معنى لإنكارها.
* *
ونحن لا نرى أن قطر قد نُزِعَت منا، أو أنها قد اختطفت ولن تعود ثانية لنا، فما حدث ويجري نراه مناورة مآلها الفشل، وننظر إليه على أنه تصرف أهوج لا يصمد أمام إرادة المواطن القطري الذي يرفض أن تُقصى قطر من مكامن القوة، وتحوَّل إلى دولة تابعة لإيران، كما لو أنها إحدى محافظاتها أو مدنها الكبيرة، كما لا يقبل المواطن القطري أن تسير بلده في فلك تنظيم الإخوان المسلمين في إقامة دولة الخلافة الإسلامية.
* *
شعب قطر لم يتغير، فمثلما كان يسكن البيوت الطينية، ويعبر الشوارع غير المعبدة، ويعتمد في رزقه على البحر، هو ذاته الشعب الأصيل الذي حافظ على أصالته وتراثه وقيمه بعد اكتشاف النفط والغاز، شريكاً في السراء والضراء لإخوانه في دول مجلس التعاون في كل شيء، برغم التقلبات السياسية لنظام قطر، وإصراره على أن يغرد خارج الإجماع الخليجي المتوافق عليه في المواقف والسياسات.
* *
لقد كثر الحديث عن إرهاب قطر، وظن البعض في البداية أن هذه إدعاءات، وتصرفات كيدية من الدول الأربع ضد قطر، ولكن بعد أن أفرج عن التسجيلات بصوتي الشيخ حمد بن خليفة والشيخ حمد بن جاسم، وفيها التآمر على قتل الملك عبدالله وتقسيم المملكة إلى دويلات صغيرة بالتنسيق مع معمر القذافي سقطت حجة غير المصدقين، وبات حتى من أراد أن يتعاطف مع الموقف القطري في وضع من لا تسمح له هذه الحقائق بأن يفعل شيئاً.
* *
والأدهى من ذلك حين أظهرت كل من الإمارات والبحرين ما كانتا تحتفظان به من وثائق ومستندات ومقاطع تلفزيونية عن مؤامرات قطر ضد الدولتين، بما صعب من موقف النظام القطري، فلم يعد لديه ما يدافع به ضد هذه الهجمة المركزة التي تعتمد على هذه التسريبات المهمة التي تدين نظام تميم، ولا تعطيه أي فرصة للتهرب من المسؤولية في مؤامرات بهذا الحجم ارتكبها منذ كان حمد بن خليفة أميراً للبلاد، وإلى اليوم في عهد تميم بن حمد.
* *
وما نراه من غيوم في العلاقة القطرية القطرية، أي بين نظام تميم والمواطنين القطريين غير ما تتحدث به وسائل الإعلام القطرية الموجهة التي تنقل لنا صورة أخرى متفائلة لهذه العلاقة، اعتماداً على زيارات يقوم بها الشيخ تميم على غير العادة لكثير من رموز الأسر القطرية لاسترضائهم، وطلب دعمهم في هذه المرحلة الصعبة التي يمر بها النظام، إثر قطع العلاقات وإقفال الحدود بين قطر والدول الأربع.
* *
غياب الدبلوماسية في حل مشاكل قطر سببه النظام، فالوساطات تم إفشالها منه، لأنه لم يقبل بالشروط التي تمنع إرهابه وتطرفه وتحريضه وتدخله في شؤون الدول، ما فسر لدى الطرف الآخر بأنه إصرار على العدوان والتآمر، فكان أن طولب بمجموعة من الشروط عليه أن يستجيب لها، وعندما رفضها اعتبر ذلك بأنه يقبل بقطع العلاقات وإقفال الحدود، على أن يستجيب للثلاثة عشر مطلباً، وهذا ما حدث عندما تم الإعلان عن ذلك، وربما كان الشيخ تميم يعتقد أن ذلك لن يصير عندما عاند ورفض القبول بالطلبات وفضل على ذلك قطع العلاقات وإقفال الحدود.
* *
لا أدري إن كانت إيران حاضرة من خلف الستار في المواقف القطرية، وأنها من أوصت بأن يكون لقطر موقف متصلب من هذه الطلبات، رافضاً نظام تميم أي قبول بها، أم أنها تمت بناء على استشارة من عزمي بشارة والقرضاوي وآخرين من مستشاري السلطة من غير القطريين، لكن ما يعنينا في ذلك أن نظام تميم ليس وارداً لديه أن يتجاوب مع ما ينقذ قطر من الوضع الذي تمر فيه الآن.
* *
ومع كل هذا، ونحن نتفهمه جيداً، نتساءل: هل النظام القطري في أجواء المستقبل الذي ينتظر قطر إذا ما ظل الإصرار هو سيد الموقف في الدوحة، مكتفياً بما تتحدث به قناة الجزيرة ووسائل الإعلام المحلية، وتلك الممولة من قطر من كلام متفائل تعد به نظام تميم بأنه على موعد مع نصر قريب مؤزر ضد هذه الدول الأربع التي قطعت علاقاتها وأقفلت حدودها مع قطر، أم أنه يوشك أن يتحرر من المتآمرين عليه وعلى قطر والدول الأربع المقاطعة وغيرها، لا أدري فالنظام في حالة عدم توازن، ومن الصعب التكهن أو التوقع للإجابة على مثل هذه التساؤلات.
* *
هذه ترجمة وقراءة وتحليل شخصي لما أراه أمامي، لا أدعي أنني وقفت على كل التفاصيل التي تحيط بأزمة قطر مع أشقائها وجيرانها، لكني حاولت بقدر ما هو متاح لي من معلومات، ومتوفر من أحداث، أن أغوص وأتلمس الأسباب التي جعلت من نظام تميم مخترقاً بهذه السهولة، وأن يصل الأمر به إلى استعداده للتخلي عن أشقائه في دول مجلس التعاون وفي الجامعة العربية في سبيل إرضاء إيران والإخوان المسلمين، والتحالف معهم على ما يعرض أمن وسلامة عدد من الدول الشقيقة للخطر.
* *
وإذا كان هناك ما يخالف كل هذه الاستنتاجات التي اجتهدنا في تثبيتها في مجموعة من المقالات عن ذات الأزمة، فنتمنى على نظام قطر أن يقدم ما ينفيها، أو حتى يشكك بها، فالمجال للحوار والنقاش متاح لاستجلاء الحقيقة، والوصول إلى ما يحمي قطر من هذا الشر الإيراني الإخواني المستطير.