د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
التعليم عصب الحضارة وقوام أخلاقها، به ترتفع الأمم وتتقدم أو تتراجع وتتخلف. والتعليم استثمار مهم في أهم موارد الأمم وهو الإنسان، ولذا حضت جميع الديانات وجميع الفلسفات على الأخذ بناصية العلم كقيمة مضافة عقلية ومهارية. وأولت جميع الدول، ومنها المملكة العربية السعودية، التعليم جل اهتمامها وخصصت له الجزء الأكبر من ميزانياتها. وتعاقب على وزارات التعليم لدينا وزراء مخلصون حاولوا جاهدين النهوض بالعملية التعليمية وحققوا نجاحات متفاوتة. وعندما يتعلق الأمر بالتعليم فالطموح دائمًا يفوق الإنجازات أو الإمكانيات، والحكومة والشعب يطمحون دائمًا لما هو أفضل في كافة الأحوال.
وهناك حقائق تحاول الجهات التعليمية إصلاحها وهي أن التعليم لدينا يدار بشكل مركزي، ولا زال يعتمد إلى حد كبير على التلقين المباشر والحفظ من مرحلة مبكرة تخلق عادات لدى النشء تستمر بدرجات متفاوتة لمراحل التعليم المتأخرة. فالطلاب يشبون على التلقين ويشيبون فيما بعد عليه.
ويستند التعليم التلقيني في مدارسنا إلى أهداف معينة هي في غالبيتها نبيلة من أهمها تلقين النشء مبادئ الدين الحنيف والأخلاق اعتمادًا على الحفظ حيث يخصص للمواد الدينية ما يقارب ثلث المواد التعليمية، وهذا أيضًا لا غبار عليه لأهمية الدين الإسلامي لوجودنا وأخلاقنا كمسلمين. غير أن مخرجات التعليم التلقيني في مراحل التعليم المختلفة لا تأتي غالبًا بالنتائج المرجوة منها، وهي في أسوأ الأحوال تخرج لنا أفرادًا يطبع سلوكهم مظاهر متناقضة لا تتواءم مع ما تلقنوه من تعليم وتعاليم، فقد يكون الفرد، مثلاً، حريصًا أيما حرص على أداء العبادات بأدق تفاصيلها، لكن يغيب عن ذهنه أن النظام، أو النظافة العامة، والحفاظ على البيئة أو الممتلكات العامة هي من صلب التعاليم الإسلامية لأن ذلك يخرج عن التعليم الحرفي إلى القياس والمناظرة.
وتوصل علماء التربية الحديثة، وعلماء التطور النفسي «كبياجيه» و»كولبيرج»، عبر التجارب العلمية، إلى أن التعليم التلقيني للأطفال مضيعة للوقت والجهد، بل وله تأثيرات سلبية كبيرة على شخصية التلميذ من أهمها تنفيره من عملية التعليم ذاتها وخلق المتناقضات في شخصيته. فالقدرات العقلية للطفل ومهاراته الأخرى، ومنها قدراته اللغوية، وقدرته على الحكم الأخلاقي، وقدراته على التجريد، تنمو بشكل متدرج حتى تكتمل تقريبًا عند مرحلة البلوغ. وعليه فهو عندما يحفظ المواد التلقينية يحفظها بشكل تلقائي كالببغاء ولا يعي معانيها ومقاصدها بالشكل المطلوب، ويعتمد في تعلمه هذه المواد على ذاكرته فقط وليس على القدرات الأخرى كالتحليل، أو القياس، أو الربط بين الحقائق المختلفة. فمقولة إن العلم في الصغر كالنقش في الحجر قد تنطبق على تعلم الحرف وليس تعلم العلوم والمعارف. ولذا فقد تضيع موارد تعليمية كبيرة ومهمة في محاولة تعليم التلاميذ ما لا يتناسب مع قدراتهم. ليس ذلك فحسب بل إنها قد تنعكس سلبًا على شخصياتهم وتجعلهم ينفرون من المدرسة ومن القراءة.
إذًا كيف يتعلم الطفل؟ الطفل يتعلم عبر التجارب المادية وليس عبر حفظ المعادلات والقوانين أو المواعظ المجردة. فإذا أردنا أن نعلمه أن النظافة من الإيمان علينا أن نجعله عمليًا يحس بذلك من حوله وفي مدرسته، وأن نشركه في نظافة مدرسته وترتيبها وأن نعتبر ذلك جزءا أساسيا من العملية التعليمية، وعليه دائمًا أن يرى مدرسته نظيفة ربما أنظف من بيته. وإذا أردنا أن نعلمه الأخلاق الإسلامية فلنعلمه ذلك من خلال التعامل الفعلي معه وبينه وبين زملائه دونما تلقينه نصوصًا متعلقة بها فقط. وإذا أردنا تعليمه بعض الحقائق العلمية يكون ذلك من خلال تجارب علمية حقيقية مبسطة. وإذا أردنا تعليمه احترام حق الآخرين يكون ذلك من خلال تبادل الأدوار معهم حتى يحس بإحساس الآخر. هذه أمثلة بسيطة من مهارات كثيرة. لكن الأمر يعتمد على إعداد مدرس لديه إدراك بتدرج النمو النفسي والعقلي للطالب، لا مدرس يمارس العقوبة من أي نوع معه. ولا بد أن يحس الطفل بالمتعة في وقته الذي يقضيه في المدرسة، وان نتدرج معه في الكتابة والقراءة حتى لا تسبق القراءة المهارات المختلفة فلا يدرك ما قيمتها وينفر منها مبكرًا.
ولذا فمن الممكن لإصلاح التعليم لدينا أن نضيف لأهدافه العامة التي نصت على التنشئة الوطنية الصالحة وترسيخ الثوابت الدينية والوطنية لديه أن نضيف أهدفًا أكثر خصوصية تصف بدقة كيف تحقيق ذلك عبر كل مرحلة تعليمية بالشكل الذي يتناسب مع عقل الطفل وتكوينه التربوي والنفسي. وربما يكون ذلك صعبًا أو مكلفًا بعض الشيء إلا أنه في كافة الأحول أجدى وأنفع لأنه يحقق الأدنى من التربية الصحيحة، ويحد في أسوأ الأحوال من الممارسات التربوية الخاطئة ومن تكاليف طبع المقررات وتحفيظها للتلاميذ.