معين نقي أصيل يتدفق عبر مئات السنين على امتداد أرضه في سهولها الواسعة وشواطئها الحالمة ومرتفعاتها العالية التي يعانق ذراها السحاب. انقادت لجماليات هذا المحتوى المكاني جميع المزايا والصفات وشملت أساليب البيان وخصائص الأدب الجامعة، هكذا بدأ الأستاذ محمد بن عبدالرحمن بن عبدالرحمن الدريبي كتابه: «صفحات من حياتي» والذي وصف فيه تاريخ جازان ليصبح الدريبي من خلال سيرته الزكية شاهد عصر على أحداث ذلك التاريخ ومتغيراته، كيف لا وقد قال زميله ورفيق دربه سعادة د.هاشم عبده هشام عن هذا الكتاب في تقديمه له: «لم يكن هذا الكتاب «الغني بالمعلومات» مجرد سيرة ذاتية رصد فيها أخي وزميلي وصديقي الأستاذ الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن عبدالرحمن الدريبي قصة حياته وإنما هو رحلة ربان ماهر في تاريخ مدينة بل منطقة جازان الثقافي»، ويقول د.هاشم: «هذا التاريخ المختصر لمنطقة ثرية العطاء قدمه لنا الأستاذ محمد الدريبي بأسلوب أدبي رشيق وبتوثيق علمي محكم ليضاف إلى أمهات الكتب التي تناولت أوجه الحياة في منطقة فتحت ذراعيها منذ وقت مبكر لرجالات كبار أتوا إليها من مختلف أنحاء المملكة وأسهموا في حضارتها وتقدمها» كما يقول الأستاذ حسن حجاب الحازمي في قراءته للكتاب: «لقد سجلت من خلال رحلتك وذكرياتك تاريخ مرحلة وتاريخ منطقة بأسلوب راق جميل جمع بين العذوبة والسلاسة وعدم التكلف وحقق الجمال والكمال اللغوي».
والدريبي محمد من أسرة تميمية موطنها نجد ومدينة ثرمداء تحديداً وقد غادرها والده عبدالرحمن بن عبدالرحمن الدريبي (وقد ولد فيها عام 1330هـ) في أواخر عام 1348هـ يدفعه حسه الوطني لنيل شرف الخدمة الوطنية وكانت وجهتهم حسب الأوامر التي صدرت من المؤسس الملك عبدالعزيز يرحمه الله المنطقة الجنوبية التي كانت تحظى باهتمامه بعد معاهدته مع إمارة الأدارسة في منطقة جازان والتي عقدت في مكة المكرمة في شهر ربيع الآخرة من عام 1345هـ وعلى إثره قدم والده عبدالرحمن إلى منطقة جازان نهاية 1348هـ، وقد شهدت منطقة جازان حتى 1351هـ اختلال في الأمن وسوء للأحوال ولكن رجال الملك عبدالعزيز حافظوا على حمايتها، استقر عبدالرحمن الدريبي والد المؤلف من بداية عام 1349هـ (ومعه محمد بن إبراهيم الطاسان (عين أميراً للمضايا 1350-1351هـ ثم لبني مالك1352هـ) وعبدالهادي بن سريع الدوسري في جهة قبائل الحكامية في مركز المضايا وتزوج وتنقل بين المضايا وصامطة بين عامي 1351هـ حتى 1369هـ التي توفي فيها ثلاثة من أولاده وهم محمد وعبدالله وهيا فحزن عليهم حزناً شديداً وقال فيهم مرثية منها:
ياديرة ليت الحيا ما يجيها
أمسوا عيال الكبدى مدفونين فيها
اثنين في أسفل الديرة
وواحد في معاليها
ثم انتقل عبدالرحمن الدريبي لإمارة بني مالك حتى عام 1377هـ بعده انتقل فيه إلى مدينة جازان، يقول محمد الدريبي عن والده رحمه الله والذي توفي في مدينة جازان عام 1378هـ أنه كان يتحدث كثيراً عن ثرمداء بلدته ويشاهده يكرر النظر إلى نجد وإن كان بعيداً عنها كأنما يستعيد قول الشاعر:
أكرر طرفي نحو نجد وإنني
إليه وإن لم يدرك الطرف أنظرُ
يتحدث محمد الدريبي في كتابه عن التعليم في جازان وكيف أن بدأ تعليمه في المضايا التي ولد فيها (هو المولود الرابع في أسرته) في بداية الستينيات، يقول الدريبي إن المضايا: «بلدة طيبة قديمة في تاريخها ذات موقع مهم في التجارة والطرق الرئيسة سواء لقوافل الحج القادمة من اليمن مروراً بالموسم إلى جازان أو لنقل البضائع المتنوعة من الأقمشة والعطور والتوابل من مينائها البحري المهم»، وقد درس الدريبي عند فقيه القرية الشيخ يحيى بن علي حكمي وتعلم منه شيئاً من حروف الهجاء وكتابتها على ألواح خشبية وهي وسيلة التعليم الأولى ثم انتقل مع والده إلى صامطة التي كان أميرها إبراهيم العوشن وكانت بيوتهم عبارة منازل من القش كم يقول: «وكنا نسكن في وسط المدينة في منزل من القش حالنا حال جميع سكان مدينة صامطة ويسكن إلى جوارنا الشيخ عبدالله القرعاوي» وهناك المدرسة السلفية الأولى في صامطة وهي عبارة عن عريش مستطيل لم يكن بها كثير من الطلاب ويعلمهم فيها الشيخ محمد سراج مباركي وزامله فيها الشيح حافظ بن أحمد الحكمي وكذلك رجل مقعد يجلس على كرسي صغير هو الشيخ ناصر خلوفة». كما تعلم في مدرسة القرعاوي في المضايا حتى انتقلت عائلته إلى جازان أواخر عام1371هـ بينما ظل والده في إمارة بني مالك قبل أن يتقدم محمد إلى أمير جازان الشيخ تركي بن أحمد السديري بطلب نقل والده عبدالرحمن من بني مالك إلى مدينة جازان فحصلت الموافقة.
بدأ محمد الدريبي دراسته النظامية في جازان المدينة عام 1372هـ في المدرسة العزيزية الابتدائية وممن درسه فيها علي بن أحمد كاملي وعلي عبدالقادر علاقي وأحمد يحي الصوري وجمع من المعلمين من مصر والسودان وسوريا وفلسطين وقد شجعه على القراءة وغرس فيه حب الاطلاع معلم سوداني يدعى عبدالحميد ضو البيت وقام بتدريبه مع زملائه على الإلقاء واكتساب ملكات الكلام، لكن محمد الدريبي لم يكمل دراسته بالانتظام كونه توظف في محكمة جازان بسعي من والدته دون علمه حين رأت أنه ينوي السفر خارج جازان ليلتحق في مدرسة عسكرية فلم ترغب في أن يغادر ويفارقها فأوعزت إلى علي إبراهيم حملي بأن يسعى له في وظيفة في محكمة جازان لتجعله يستقر في جازان وكان رئيس المحكمة حينها الشيخ عبدالعزيز بن صالح الفوزان وقد نقل بشرى وظيفته التي يتقاضى عليها راتباً شهرياً مقداره 420 ريالاً لوالده في بني مالك عبر رسالة خطية كتبها له وأرسلها مع أسعد بن جابر المالكي أحد موظفي إمارة بني مالك الذي اعتاد الحضور إلى مدينة جازان لاستلام الرواتب الشهرية لموظفي الإمارة، وبهذا انقطع عن الدراسة النظامية لكنه أكمل دراسته الابتدائية انتساباً عن طريق نظام المنازل. وكذلك المرحلة المتوسطة وقد زامله في هذا د.هاشم عبده هاشم كونهما من العاملين بوظائف حكومية فالدكتور هاشم يعمل في إدارة الجمارك والدريبي في المحكمة لكنهما يملكان الطموح والإصرار، يقول الدريبي: «بدأنا سوياً نبحث عن الكتب الدراسية والمعلمين وحصلنا على ما نحتاج إليه من كتب واتفقنا مع المعلمين على حصص محددة كل مساء»، ويقول: «... ويسر الله لنا رجلاً فاضلاً هو الشيخ محمد عقيل أحمد... قال لنا: «انتظركم كل مساء بعد صلاة العصر في مسجدي الذي أصلي فيه في الحارة الشامية». وعند انتهاء المتوسطة عام 1380هـ اتجه للثانوية وتحديداً مدرسة معاذ بن جبل ودرس فيها بنظام الدراسة الليلية لكن رفيق دربه د.هاشم قد انتقل مع والده للعمل في جمارك مدينة جدة وبعد عناء كما يذكر تجاوز المرحلة الثانوية عام 1390هـ، لتبدأ مرحلة الدراسة الجامعية ليتخرج من كلية الآداب (قسم التاريخ) عام 1396هـ.
يعد محمد الدريبي أن عام 1352هـ يمثل نشأة الأدب السعودي المعاصر في تهامة المخلاف السليماني في جازان ويشير إلى أن في مدن المنطقة أسر علمية تعد جانباً من دورها وسكنها للعلم والتعليم وينقل عن المؤرخ محمد بن أحمد العقيلي صاحب كتاب «التاريخ الأدبي لمنطقة جازان» أصحاب صالونات أدبية اتخذها أصحابها مجالس خاصة لعقد لقاءات كمجلس الشيخ عبدالقادر علاقي الذي له رواده ومحبوه.
كان هناك اهتمامات صحفية في جازان تزامنت مع صدور العديد من الصحف والمجلات في السبعينيات خاصة عامي 1377 / 1378هـ وأصبح لها مراسلون وكتاب فضلاً عن القراء، وبرزت لدى الدريبي وزميله هاشم عبده هاشم فكرة إصدار صحيفة خاصة أسبوعية تهتم بقضايا مجتمع جازان ويقومان على تحريرها وهما من طلاب السنة الثانية المتوسطة في عام 1379هـ وأطلقا عليها اسم (الفجر الجديد). كما عمل على تحرير صفحة أسبوعية خصصتها جريدة الندوة لصاحبها صالح محمد جمال باسم صفحة الجنوب ومعه هاشم عبده هاشم وعلوي الصافي وقد اشترط صاحب الصحيفة استلام المواد مطبوعة على الآلة الكاتبة وبعد عناء البحث وجدوا أن هذه الآلة موجودة لدى مؤسسة تجارية فتم التفاهم معها على أخذها نهاية دوام يوم الخميس وإعادتها لحارس المؤسسة في يوم الجمعة وكانت المواد تكتب في صراع مع الوقت ثم تراجع وترسل يوم السبت بالبريد لتنشر في نفس الأسبوع ثم انتقلت صفحة الجنوب لمجلة الرائد بالاتفاق مع صاحبها الأستاذ عبدالفتاح أبومدين.
يحكي الدريبي في كتابه كيف أن المخزون الثقافي مهم جداً لمن يريد الكتابة والتفاعل مع حراك المجتمع، وقد كان شغوفاً بالقراءة منذ صغره وزاد شغفه وجود مكتبة مكتنزة بالكتب في المحكمة وساعده كذلك أن مقر عمله في المحكمة داخل هذه المكتبة يقول الدريبي عنها: «ومما لفت نظري أن معظم هذه الكتب قد طبعت في مصر في الستينيات الهجرية على نفقة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رحمه الله»، ويقول كذلك: «عثرت على قصيدة شعرية كتبها أحد العلماء من مشايخ أنصار السنة المحمدية في مصر في ذلك الزمن البعيد قبل أكثر من سبعين سنة أشاد الشاعر فيها بالملك عبدالعزيز آل سعود على اهتمامه بالعلوم الشرعية ووجدت القصيدة ملصقة بالصفحة الأولى من المجلد الأول من كتاب جامع الأصول الذي طبع في مطبعة السنة المحمدية بمصر الطبعة الأولى عامة 1368هـ وهذه بعض أبياتها الجميلة:
لابن السعود على العلم أيادي
بيضاء قد جلت عن التعداد
ما إن دعاه إلى التقدم حافزٌ
إلا والفاه على استعداد
في كل حين تحفة نبويةٌ
يجلو محاسنها لأهل الضاد
عبدالعزيز إذا أرت تأسياً
سر خلفه في قطع هذا الوادي»
ويعيد التاريخ نفسه في الاهتمام بالكتب والعلم والثقافة مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز فيذكر المؤلف عن احتفالات الجنادرية عام 1419هـ ودعوة خادم الحرمين الملك سلمان يوم أن كان أميراً للرياض لمناسبة كبيرة في أحد القصور الملكية، يقول محمد الدريبي: «ثم دعاهم الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى جولة في قاعات القصر الواسعة وإلى مكتبات بديعة التنظيم حملت رفوفها النوادر من الكتب العلمية والتاريخية التي يحتفظ بها في خزانات هذا القصر» ويقول عن الكتب التي رآها: «وعليها عبارات تقول: طبعت على نفقة الملك عبدالعزيز عام... في أوائل الستينيات الهجرية»... ولا أنسى إشارات الملك سلمان وفي إشاراته حفظه الله إشارات قوية على صلته الوثيقة بالمكتبات ومعرفته بأسمائها ومضانها من أنواع العلوم والمعرفة وهذا الملك المبارك الموفق يجيد قراءة التاريخ التي تعني الوقوف على حاضر الأمة وتوقعات المستقبل القريب والبعيد واستباق أحداثها قبل وقوعها بقرارات حكيمة.
عمل المؤلف عضواً في مجلس المنطقة بطلب من أمير جازان محمد بن تركي السديري كما عمل في الصحافة ومارسها باحترافية ونهم وترأس مكتب جريدة عكاظ في جازان وأبلى في بلاط صاحبة الجلالة بلاءً حسناً وتم تكريمه عليه من قبل الأمير، الذي طلبه لإدارة جمعية جازان الخيرية فعمل على تطويرها وإحداث نقلات نوعية بها سواء في الجانب الإداري أو الفني عبر آليات توزيع المساعدات أو التعامل مع الأزمات والكوارث من سيول أو أوبئة، يقول الدريبي في كتابه حول ما قام به خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان حين كان أميراً للرياض في الوقوف مع جمعية جازان الخيرية للتصدي لوباء حمى الوادي المتصدع وسد الحاجة من المساعدات المالية والعينية: «وتلقى مدير الجمعية سريعاً توجيه صاحب السمو الملكي أمير الرياض في حينه بأن يرسل إلى منطقة جازان حملة مكونة من عشر شاحنات كبيرة محملة بالأغذية مختلفة الأنواع» كما أن الدريبي هو صاحب فكرة الاستفادة من تجربة مشروع الأمير سلمان في تنفيذ مشروع مجمع الإسكان الخيري الذي نفذته جمعية الأمير محمد بن ناصر للإسكان الخيري بمدينة جازان.
حمل الكتاب في ختامه تراجم لعلماء وشخصيات عاصرها المؤلف ومنهم عمي أبوعزام الشيخ محمد بن عبدالرحمن الدخيل رحمه الله والشيخ يحيى الجبيلي والشيخ عبداللطيف بن شديد والدكتور هاشم عبده هاشم وآخرون.
** **
سعد الدخيل - ثرمداء
SDOKHAIL@GMAIL.COM