«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
تحت شجرة النخيل الوارفة الظلال. كان جسده المنهك ممددًا. وتحت رأسه وضع وسادة قديمة كالحة اللون وبدأ ظلال سعف النخيل يرسم نفسه على المشهد منتشرًا على جسده ومن حوله وإلى جواره كانت تستريح (قفة التمر) التي استطاع أن يخرفها صبيحة اليوم. آه اليوم. يوم العيد. وحتى القفه كان ظلال السعف يحتضنها بحب بل إنها استطاعت أن تلتصق بخوصها الذي «سفت» منه حتى باتت أشبه ما تكون بجزء من لونها الذي تغير مع الأيام وبات لونًا باهتًا كوجه امرأة تخطت عقدها السادس وأكثر. وعلى الرغم من زقزقة العصافير وحفيف وأصوات السعف الذي تحركه الريح المشبعة بسموم الصيف الحار فهو يغط في نوم عميق. حركة صدره وصوت شخيره المتعب المصحوب بصفير مميز.
فهو في نومه كأنه أخذ حقنة تخدير في غرفة عمليات واستسلم لمبضع الجراح. هو هكذا في نومه الذي جاء نتيجة تعبه. فلقد واصل ليله بصباحه. ليلحق على صلاة العيد وبعدها توجه «للنخل» لنحر أحد الخراف ليكون الأضحية في هذا اليوم العظيم. يوم عيد الأضحى. لم يرتاح إلا بعد أن حمل ابنه لحم الأضحية وعاد به إلى بيتهم. أما هو فلقد واصل عمله في جنى التمر. فلقد بدأ موسم «الصرام» ولا بد من القيام بهذه العملية المهمة التي تعد حصاد العام المهم.؟! وها هي يده ما زالت قابضة باسترخاء على (محشة) وفي حالة استكانة في يده قريب من جسده المتعب والمهدود كأنه يريد أن يقول له: إنه مرتبط به إلى هذا الحد. إنه مثل البعض من الفلاحين المخلصين في هذا الوقت من النهار وفي هذا الفصل الحار من العام. تجدهم يبحثون عن الظل الظليل ولحظات من الراحة من عناء صباح عمل طويل. وكان الابن البار يحث السير في سيارته (البكب) وهو يسير في اتجاه (النخل) حاملاً غداء العيد لوالده الذي أصر على أن يواصل «جنى» التمر وهو يردد بينه وبين نفسه: جعل والدينا في الجنة. بالرغم من أنه يوم عيد فهو أصر على مواصلة العمل وسقي «النخل» وخرف التمر وقبل هذا قام بذبح «الأضحية» بل إنه وبعد صلاة العيد مباشرة طاف بسرعة على معارفه وأصدقائه وأدى الواجب قبل أن يتوجه للنخل. وها هو الآن نائم تحت ظلال إحدى أشجار النخيل التي أحبها، بل هو الذي غرسها قبل عقود وها هي تظلله اليوم بظلالها ويهف سعفها عليه كلما حركه الريح. بل إن كل شجرة في هذا النخل كان وراء نموها شموخًا. أشجار الليمون والرمان والتين وحتى شجرتا «المبمبر» عشرات الأشجار التي كونت هذا النخل الذي كان أرض وقف مهجورة لكنه وبعد أن استأجرها من الورثة استطاع أن يحولها إلى نخل عامر. وأعاد الحياة لتربتها ولنخيلها التي كانت تعاني من الإهمال وحتى الجفاف.. كم هو فخور بوالده الذي أعاد الحياة من جديد لهذا الوقف.
بل إنه يشعر بالفخر به وهو يشاهده في نومه الآن بعد أن سهر وعمل وراح يأخذ قسطًا من الراحة. يا له من نموذج رائع للإنسان والمواطن البسيط والمخلص والمحب لأرضه وعمله. وضع قدر الطعام بجوار والده النائم. وتردد هل يوقظه ليتناول معه طعام العيد أم يتركه يواصل نومه ليرتاح أكثر.
وقبل أن يقرر فجأة وقع «الملاس» على القدر فأحدث صوتًا. على إثره استيقظ والده. فتطلع إليه وهو يبعد عنه أطراف غترته ويقوم من رقاده جالسًا ومبتسمًا. ومحييًا ابنه وهو يقول: ما شاء الله تصدق يا ولدي إنني كنت أحلم بأني جالس أتناول طعام العيد معك.. فرد الابن وهو يمد سفرة الطعام الخوصية: وأنا ما حبيت أكل غدًا العيد إلا معك. أنت الخير والبركة. ثم أردف وهو يتجه لاحضار إبريق الماء ليغسل والده يديه لتناول الطعام على فكره يايبه ترى الوالدة ما نست تسوي لك «دقوس» اللي تحبه وحتى السمن البري احضرته.. فرد والده وهو يعتدل في جلسته. ما لي إلا الله ثم أنتم وهذه الأرض الطيبة..؟!