د. جاسر الحربش
مع كل الاحترام والتقدير للهنود عقولاً وكفاحاً وإنجازات، قبل عشرات قليلة من السنين كان العامل الهندي ضمن الشخصيات التي يتساهل العربي في السخرية منها. تلك الأيام زالت، أيام كان العراقي يقول لصاحبه على بالك آني هندي، والخليجي يتراقص على أغنية يا طوير هندي عندك ما عندي عندك سيارة فيها الخسارة؟.
الهندي الآن عنده أقمار صناعية ومركبات فضائية وحاملات طائرات وأفضل المبرمجين في العالم ومئات الذخائر النووية. الخليجي حتى لو كان يملك أموال قارون ليس عنده شيء من هذا القبيل، والأنكى من ذلك وجود البعض منهم يملكون طائراتهم الخاصة ويشحنون عرباتهم الرياضية المذهبة والمزخرفة إلى مصائف الغرب ليعيثوا فيها إفساداً للذوق العام وإساءة لما تبقى من فتات في قدر الكرامة العربية، وخصوصاً الدول النفطية.
إما أن يكون لسانك حصانك إن صنته صانك، أو حمارك تفلته فيرفسك. كثرت التعليقات في الأسابيع الأخيرة على شاب سعودي سليل عائلة ثرية جداً يتفاكه مع رفاقه كيف أنه طلب من قبطان طائرته الخاصة العودة إلى مطار عاصمة أوروبية لأن أحد أصدقائه نسي نظارته في المطار. الحبكة في النكتة أن الصديق نسي نظارته هناك. في مثل هذا الموقف نستطيع أن نسأل: ويش ها الطويرات بداركم؟، وهي عبارة استهجان كان يسألها أهل القصيم لمن تلعب النعمة العابرة بعقله فيرفع أرنبة أنفه. أصل الحكاية أن شاباً سافر من قريته إلى المدينة ثم عاد بعد بضعة أسابيع، وعندما شاهد دجاجهم المعتاد في الحوش تساءل ويش هالطويرات بداركم؟، فذهبت مثلاً.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر فإن المجتمع السعودي يسأل هذا الشاب وأمثاله من المتخمين بالأموال، ويش هالطيارات اللي رايحين جايين عليها على كيفكم، من أين حصلتم على هذه الأموال التي فصلتكم عن الواقع الذي كان عليه بلدكم قبل عقود قليلة من السنين، فعلاً، ما هان مدخاله هان مطلاعه، وهذا مثل آخر على البذخ والبعزقة بأموال تكومت في غفلة من الزمن.
المهم في الموضوع ليس النظارة ولا الشاب الذي نسيها في المطار ولا صاحب الطائرة الخاصة، لكن المهم الكارثة الأخلاقية التي تسللت إلى عقول القليل أو الكثير من الأثرياء السعوديين والخليجيين فأدخلتهم في حالة فصام ثلاثي.
الانفصام الأول هي انفصالهم عن واقع مجتمعهم الحالي الذي لا يملك فيه ستون بالمائة من المواطنين السكن الخاص، والذي لا تزيد الرواتب الشهرية لأغلبهم عن ثلاثة آلاف ريال (أقل من ثمن النظارة المذكورة أعلاه). الانفصام الثاني هو انفصالهم عن الواقع المعيشي لقدمائهم قبل خمسين سنة فقط. الانفصام الثالث هو انفصالهم عن حاجة بلدهم الحالية إلى الترشيد وسد الثغرات الطبقية، تلافياً لارتباكات اجتماعية دمرت غيرنا ونحن في غنى عنها.
أما الانفصام الرابع، الانفصال عن تدبير وشكر النعمة ووضعها في المكان الصحيح، فلست مؤهلاً للحديث فيه وأتركه لذوي الاختصاص.