علي الخزيم
بعد تخرجه في جامعة مدينته النجدية وزواجه؛ سكن الشاب بأحد الأحياء الذي اختاره مناسبًا لوضعه وظروفه الأسرية، ومن خلال ارتياده لمسجد الحي تَعَرَّف عليه أحد الجيران من كبار السن وبادله الشاب الاحترام والتقدير إلى أن سأله المُسن يومًا عن اسمه الكامل؟ فما أن أجابه حتى تهلل وجه الشيخ المسن فرحًا بالمصادفة واحتفى به أيما احتفاء! وأوضح له أنه كان صديقًا لوالده رحمة الله عليه، وأكَّد أن والد الشاب كان من خيار الرجال وكرامهم وأنه (أجودي) سليل أجواد، ولا شك أن الشاب قد سُرَّ بكلام الشيخ المسن وزاد من تقديره، لكن المفاجأة أن المسن قال له يومًا وهم متجهون للمسجد: كلما أشاهدك أتذكر والدك زميلي بالدراسة؛ كان مجتهدًا (وينتبه للمعلم).
الشاب في علمه أن والده المتوفى منذ أمد ويكبر هذا الرجل الطيب كما يبدو بسنوات؛ لم يدخل مدرسة حتى لو مرورًا عابرًا أو لأمر طارئ، لكنه ظن أن الرجل قد التبس عليه الأمر وأنه ربما يقصد بزميل الدراسة عمه الموظف المتقاعد أيضًا الذي كان يحمل مؤهلاً دراسيًا أقل من جامعي، مع الأيام حاول الشاب إيضاح الأمر للرجل الطيب، فأخذ يورد اسم والده كاملاً لعله يتذكر، لكنه يجيبه بأنه يعرف والده أكثر منه، وتبين أن الجار اللطيف (ومن زمن الطيبين حقًا) على صواب وأن الفصل الدراسي الذي جمعه ووالد الشاب كان (أولى ج) ابتدائي بمدرسة محو الأمية الليلية المستأجرة بحَيِّهم القديم زمن الطيبين أيضًا، وأن كامل مدة دراسة والده -رحمه الله- كانت 13 ليلة فقط، وسبب انقطاعه وتركه للدراسة هو بداية موسم الأمطار ودخول الشتاء الذي يحلو معه السهر مع (شَبَّة) نار الحطب واحتساء القهوة بجانب الحليب بالزنجبيل، بالرغم من أن السهرة تبدأ من بعد صلاة العشاء حتى العاشرة والنصف، بعدها لا يمكن لرجل كادح مثله أن يقاوم السهر والنعاس حتى لو اجتمع (المطر والفقع والجراد) بليلة واحدة! ويُحكى أن مواسم الجراد كانت عندهم كمواسم اللحم فاذا اجتمع جراد وكمأة (الفقع) عندها يكتمل البروتين، ومن كانت حاله ميسورة ويستطيع صنع (الحنيني) فهذا قد بلغ شأنًا رفيعًا، فمن ذا الذي تجتمع له كل هذه النعم في آن واحد، وهي لا تجتمع لهم سوى في أعوام يَعُدُّونها من أعوام الرخاء والخير، لا سيما إذا جادت السماء بإذن الله بالغيث، فمعه يكون العشب وادرار ضروع الماشية وكثرة الألبان ومشتقاتها، فتتحسن صحة القوم، ويدب فيهم نشاط موسمي حافل بالخيرات.
وللتذكير فإن ليس كل من ترك دراسته سابقًا قد افتقر، فقد كان لشاب من الطيبين جَدْيٌ (تيس) صغير ألهاه عن دراسته لأنه يُمضي جل وقته بمطاردته والتسابق معه وتدليله حتى إنه يطعمه مما تقدمه له والدته من تسالي الصغار آنذاك، إلى أن قطعه عن الدراسة تمامًا، هذا الفتى تحول وهو شبه أمي إلى تاجر ماشية يشار له بالبنان! غير أن من نجحوا بالتجارة مثله قلة قليلة، فلا تعدها قاعدة.