أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن : كتبَ أبو عبيدةَ عامِرُ بنُ الجرَّاحِ إلى عُمَرَ بن الخطاب رضي الله عنهما يطلبُ منه الْـمَدَدَ بإرسالِ المجاهدين في سبيل الله؛ وهذا نصُّ الخطاب: (( أمَّا بَعْدُ فإني أُخْبِرُ أميرَ المؤمنين أكرمه الله تعالى: أنَّ الروم نَفَرَتْ إلى المسلمين بَرَّاً وبحراً، ولم يُخَلِّفوا وراءهم رجلاً يُطيق حمل السلاح إلا جاشوا به علينا، وخرجوا معهم بالقِسيسين والأساقِفة، ونزلت إليهم الرهبان من الصوامع، واستجاشوا بأهلِ أرمينية وأهل الجزيرة، وجاءونا وهم في نحو من أربعِ مائة ألف رجل، وإنه لمَّا بلغني ذلك من أمرهم كرهتُ أنْ أَغُرَّ المسلمين من أنفسِهم، وأكْتُمَهم ما بلغني عنهم؛ فكشفتُ لهم عن الخبر، وشرحتُ لهم عن الأمر، وسألتهم الرأي؛ فرأى المسلمون أنْ يَتَنَحَّوْا إلى أرضٍ من أراضي الشام، ثم نضُمُّ إلينا أطرافَنا وقواصِينا، ويكون بذلك المكان جماعتُنا حتى يقدم علينا من قِبل أمير المؤمنين المَدَد لنا؛ فالعَجَلَ العَجَلَ يا أميرَ المؤمنين بالرجال بعد الرجال، وإلاَّ فاحْتسِبْ أنْفَسَ المؤمنين إنْ هم أقاموا، ودينهم [؛أي واحتَسِبْ دينهم] منهم إنْ هم تفرَّقوا؛ فقد جاءهم ما لا قِبَلَ لهم به إلاَّ أنْ يمدَّهم الله بملائكته، أو يأتيهم بغياثٍ من قِبَلِه، والسلام عليك.. وأرسله مع عبد الله بن قرط.. إلخ))؛ فكان جوابُ عمر رضي الله عنهما: ((أمَّا بَعْدُ فقد قَدِمَ عليَّ أخو فجالة [خ: أخونا] بكتابِك تخبرني فيه بنفيرِ الروم إلى المسلمين براً وبحراً، وبما جاشوا عليكم من أساقفهم وقسيسيهم ورهبانهم؛ وإنَّ ربنا الْـمَحْمُودُ عندنا، والصانعُ لنا، والعظيمُ ذو المنِّ والنعمة الدائمة علينا: قد رأى مكان هؤلاء الأساقفة والرهبان حيث بَعَثَ محمداً صلى الله عليه بالحقِّ، وأعزَّه بالنَّصرِ، ونصرَه بالرُّعب على عدوِّه، وقال وهو لا يُـخلف الميعاد: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [سورة الصف/ 9]، ولا تَـهُوْلَنَّك كثرةُ ما جاءكم منهم؛ فإنَّ الله منهم بريْـىءٌ؛ ومَن بَرِىءَ الله منه كانَ قَمِناً أنْ لا ينفعه كثرة؛ وأنْ يكِله الله عزَّ وجلَّ إلى نفسِه ويخذله.. ولا تُوحشنَّك قِلَّةُ المسلمين في المشركين، فإنَّ الله معك، وليس قليلٌ منْ كانَ اللهُ معه؛ فأقِمْ بمكانك الذي أنت فيه حتى تلقَى عدوَّك وتناجزُهم وتستظهرَ بلله عليهم، وكفى به [بالله] ظهيراً وولياً ونصيراً.. وقد فهمتُ مقالك: (أَحْتَسبُ أنفسَ المسلمين إنْ هم أقاموا، ودينهم إنْ هم تفرَّقوا؛ فقد جاءهم ما لا قِبل لهم به إلَّا أنْ يمدَّهم الله بملائكته، أو يأتيهم بغياثٍ من قبله)، وَأَيْمُ الله لولا استثناؤك بهذا لقد كنتَ أسأتَ، ولعمري إنْ أقاموا [كذا] لهم المسلمون، [هذا على لهجةِ (أكلوني البراغيثُ) مثلِ قوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} [سورة الأنبياء/ 3]..]، وصبروا فأُصِيبوا: لَـما عند الله خير للأبرار.. لقد قال الله عزَّ وجلَّ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [سورة الأحزاب/ 23]؛ فطوبَى للشهداء ولمن عقل عن الله؛ فإنَّ مَن معك من المسلمين لأسوةٌ بالمصرَّعين حول رسول الله صلى الله عليه في مواطنه؛ فما عجز الذين قاتلوا في سبيل الله، ولا هابوا الموت في جنب الله، ولا وهِنَ الذين بقوا من بعدِهم، ولا استكانوا لمصيبتِهم؛ ولكنهم تأسَّوا بهم، وجاهدوا في سبيلِ الله مَن خالفهم منهم، وفارق دينهم، ولقد أثنى الله عزَّ وجلَّ على قومٍ بصبرِهم فقال [سبحانه وتعالى]: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سورة آل عمران/ 146-148]؛ فأمَّا ثوابُ الدنيا فالغنيمةُ والفتحُ، وأمَّا ثوابُ الآخرةِ فالمغفرةُ والجنَّةُ؛ فاقْرأْ كتابي هذا على الناس، ومُرْهُمْ فليقاتلوا في سبيلِ الله، وليصبروا كيما يؤتيهم الله ثوابَ الدنيا وحسنَ ثواب الآخرة.. وأمَّا قولك: (إنَّه قد جاءهم ما لا قبل لهم به): فإنْ لا يكنْ لكم به قِبل فإنَّ للَّهِ بهم قِبلاً، ولم يزل ربنُّا عليهم مقتدراً؛ ولو كنا والله إنما نقاتل الناس بحولِنا وقوَّتِنا وكثرتِنا لهيهات ما قد أبادونا وأهلكونا؛ ولكن نتوكَّلُ على الله ربِّنا، ونبرأ [ونبوء؟.. وهذا النصَّ غرُ صحيح؛ لأنَّه ضِدَّ نَبرأ] إليه من الحَوْلِ والقوَّةِ، ونسأله النَّصر والرَّحمة، وإنكم منصورون إنْ شاء الله على كل حال؛ فأخلصوا لله نياتِكم، وارفعوا إليه رغبتكم، واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون.. وأرسله مع عبد الله بن قرط)).. [انظر مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة/ جمعها محمد حميد الله/ دار النفائس ببيروت، طبعتهم السادسة 1407هـ- 1987م/ ص (475- 478)]، وإلى لقاءٍ في السبتِ القادم مع النَّصِّ الآخَر، ومع نموذجٍ آخَرَ أيضاً إنْ شاءَ الله تعالى, والله المُستعانُ.