مكة المكرمة - خاص بـ«الجزيرة»:
الحج ركن عظيم من أركان الإسلام، ودعامة من دعامات الإيمان، من أداه فاهماً حق الربوبية، عارفاً مقام العبودية، وأخلص لله النية، فأقبل عليه تائباً من ذنبه، شاكراً لأنعمه، وجلاً من خشيته، طامعاً في رحمته، رجع من ذنوبشه كيوم ولدته أمه. والحج ملتقى كبير، يجمع أهل الإسلام قاطبة، ويفد إليه المسلمون من جميع أنحاء المعمورة، والعقل السليم يدرك أن الحج جمع كل المزايا والفوائد، وفيه أسرار عظيمة قد تخفى على البعض. «الجزيرة» ناقشت مع عدد من أصحاب الفضيلة أسرار عظمة الحج وأثره في النفوس.. وفيما يأتي ما تحدثوا به:
عظمة الحج وأسراره
بداية يبيِّن د. محمود بن محمد المختار الشنقيطي عضو مركز الدعوة بالمدينة المنورة وعضو التوعية بالحج أن في مشاهد الحج الميدانية قديمًا وحديثًا، خلاصةُ الإسلام وفهمٌ للمسلمين، واختصارُ النظرة الإسلامية للدنيا وللآخرة، وشرحُ الحياة كما هي فعلاً في حقيقتها.
وإذا كان الغربيون قد اهتزوا وشُدهوا وبُهتوا وذُهلوا واندهشوا وعَجبوا بسحر الشرق أزْمُنا وبحضارة الرمل والصحراء أعْصُرا، وحياة الفطرة والبداوة، والخيمة والجمل دهوراً، فإن الحج كان ولم يزل يفعل في النفوس ما هو أكثر من ذلك، كما في كتب الرحلات والمذكرات والتراجم الغربية حول فريضة الحج، واليوم في وسائل التواصل الاجتماعي نشاهد ونسمع أثر هذه المشاهد على المؤمنين المسلمين، بلْهَ على غيرهم... نعم عندما ينظرون إلى مشاهده الجليلة، خاصة إذا دُعمت بالشرح والتفهيم وحسن العرض وبلاغة الكلمة وانتقاء المشهد، وتزيين العرض باللفتات الإيمانية العميقة الكثيرة في عبادة الحج.
ويمكن التحدث عن هذا الموضوع من جوانب وزوايا مختلفة متنوعة، مثل: الحكم والأسرار وراء بعض التشريعات، كالحكمة من الرمي، من السعي، من لباس الإحرام، أو من خلال: المواعظ والزواجر في تضاعيف نصوص الحج في الكتاب والسنة، أو التحدث عن الموضوع في الآيات البينات المكانية في المشاعر مثل: البيت الحرام، وزمزم والمقام ومشعر منى وعرفة ومزدلفة والرمي... إلخ، أو من خلال الإعجاز العلمي في الحج.
ومن أبرز ميادين العظمة في عبادة الحج، وأسراره في النفوس الجانب الفقهي التشريعي في هذه العبادة، فمنها توسيع المواقيت الزمانية أشهر الحج، وتوسيع المواقيت المكانية ليدخل الناسك مريد الحج والعمرة من أي مكان في النسك، وتوسيع زمان ركن الحج الأعظم عرفة ليمتد إلى أذان فجر يوم العيد يوم النحر. ومن التشريعات في الحج تحوُّل الوجوب في حق المستطيع ماليًا دون استطاعته بدنيًّا، فيتحول الوجوب في ماله فيخرج من ماله من يؤدي عنه الفريضة وجوبًا. ومنها تفاوت أعمال الحج من الوجوب إلى الندب والاستحباب إلى الكراهة. ومنها التخفيف في بعض أعمال النسك، والتخيير ببدائل مثل: جواز الأنساك الثلاثة التمتع والقران والإفراد، والتخيير في كفارة الأذى وكفارة الصيد.. إلى غير ذلك من عظمة تشريعات الحج وأسراره، التي فيها نافذة جديدةٌ في الدعوة، وأفقٌ متجددٌ في رد الخلق للخالق سبحانه وتعالى. وصدق ربي عز وجل حين قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد}.
أسرار الحج وحكمه
ويقول الدكتور محمد بن إبراهيم الرومي أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك سعود بالرياض: لما أُقيم البيت العتيق على قواعد التوحيد ومبادئ الحنيفية، والخلوص من الشرك وأهله، أمر الله خليله إبراهيم بالأذان للناس لحج هذا البيت وتعظيم حرمات الله وشعائره، ومع ما يكون لهم من منافع في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}.
ومنذ ذلك النداء ووفود الرحمن تتوافد من كل فج على الأقدام وركبانا على ما سخر الله لهم، وما فتئت النفوس المؤمنة تتطلع إلى رؤية هذا البيت والطواف حوله والصلاة في جنباته، وفي ذلك مع الأنس والراحة والنعيم ما تعجز العبارة عن وصفه.
ولعل هذا من أسرار عظمة الحج وأثره في النفوس، وقد أبان ذلك الماوردي بقوله: «ثم فرض الحج، فكان آخر فرض فرضه الله تعالى؛ لأنه يجمع عملاً على بدنٍ وحقاً في مال؛ فجعل الله فرضه بعد استقرار فروض الأبدان وفروض الأموال؛ ليكون استئناسهم بكل واحد من النوعين ذريعةً إلى تسهيل ما جمع بين النوعين.
فكان في إيجابه تذكير ليوم الحشر بمفارقة المال والأهل، وخضوع العزيز والذليل في الوقوف بين يديه، واجتماع المطيع والعاصي في الرهبة منه والرغبة إليه، وإقلاع أهل المعاصي عما اجترحوه، وندم المذنبين على ما أسلفوه، فقلَّ من حج إلا وأحدث له الحج توبةً من ذنب وإقلاعاً من معصية».
إن أسرار الحج وحكمه لا يحس بها ولا يعرفها حق المعرفة إلا من أدى حجه على الوجه الأكمل؛ فالحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة. قال أهل العلم: الحج المبرور هو الذي قام به صاحبه متحرياً سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الإخلاص لله - عز وجل -. وعن جابر - رضي الله عنه - قال: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما الحج المبرور؟ قال: «إطعام الطعام، وطيب الكلام، وإفشاء السلام». وسُئل سعيد بن جبير: أي الحج أفضل؟ قال: من أطعم الطعام وكف اللسان. وفي الفتح: الحج المبرور المقبول هو الحج الذي وُفّيت أحكامه، ووقع موقعاً لما طُلب من المكلف على الوجه الأكمل.
فمعاني الحج وأهدافه السامية إنما تتحقق بالحج المبرور أي المقبول الذي لا يخالطه شيء من الإثم. وذلك هو الحج الذي وُفِّق صاحبه لاتباع السُّنة واقتفاء الأثر، مع الحذر مما يخدش حجه أو ينقص من أجره، من قول أو فعل مخالف، صغير أو كبير.
مواقف عظيمة
ويشير الشيخ سعود بن زيد بن سعود المانع مدير المعهد العلمي ورئيس جمعية تحفيظ القرآن الكريم بمحافظة الدلم إلى أن الحج شعيرة من شعائر الإسلام، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام لمن استطاع إليه سبيلاً من الرجال والنساء، وهو في زمن محدد في العام، وفي مكان محدد، وأعمال محددة، ولباس له شروط، وأركان، وواجبات، وسنن، ومكروهات، ومحظورات.. وهو عبادة تجتمع فيها أنواع العبادات من اعتقادية وقولية وفعلية، بدنية ومالية، ويستوي فيها الشريف والرجل العادي والغني والفقير والمسؤول ومن تحت ولايته، لا فرق فيها بين عربي ولا عجمي، ولا عبرة بلون أو نسب أو بلد.. فأكرمهم عند الله اتقاهم، والموفَّق من تقبل الله منه وغفر له. شعيرة تذكر بيوم الحشر والنشور، تحسر فيها الرؤوس، ويجتنب الطيب، ويظهر التآلف والتكاتف والرحمة والترابط فيما بينهم، ولاسيما في المواقف العظيمة، وأعظمها يوم عرفة حيث يظهر الخشوع فيها لله رب العالمين، والرحمة وحب الخير وبذل العون للآخرين.
ورغم ما يلاقيه الحاج من تعب ونصب وجهد ومشقة إلا أن له لذة وذكريات وحنينًا في النفوس، تبقى على مدار الزمن حتى أن كثيراً منهم يبكي وتذرف عيناه عند انتهاء المناسك ووداع البيت الحرام، ويتقطع شوقاً ولهفة للرجوع مرة أخرى لحج بيته الحرام، فيا له من شعيرة عظيمة، فيها ألطاف ربانية، وإجابة لدعوة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث نادى بأمر الله تعالى، وحج النبيون عليهم الصلاة والسلام إلى بيته الحرام، وجعله الله معموراً للطائفين والعاكفين والركع السجود، وسيبقى ما شاء الله إلى يوم الدين.