د. محمد بن إبراهيم الملحم
وفقًا لدراسة حديثة لمنظمة التعاون والتطوير الاقتصادي الأوروبي OECD نشرت عام 2015 فإن الاتجاه الحديث لتقييم مساهمة التعليم في النمو الاقتصادي يجب ألا يقتصر على نسبة الملتحقين بالتعليم كما كان ينظر إليه سابقًا ولكن من خلال جودة ذلك التعليم والتي قدمتها الدراسة فيما أسمته «المهارات الأساسية الكونية» Universal Basic Skills وقد عرفتها ببساطة (لنطاق الدول الأوروبية) أنها مهارات المستوى الأول في اختبار بيسا الدولي PISA (420 نقطة) والذي تجريه نفس المنظمة (شرحته في الحلقة 5 من هذه السلسلة) وهي تعادل ما يسمى اليوم: القرائية الوظيفية الحديثة Modern Functional Literacy وهي مهارات تتميز بأنها تضمن غالبًا نجاح من يمتلكها في المساهمة في بناء الاقتصاد الوطني، ويقتضي النموذج الأوروبي أن النمو الاقتصادي لأية دولة سيتحقق إذا ما تحقق أمران: أن كل فئة الشباب تلتحق بالتعليم الثانوي على الأقل وأن كل هؤلاء يتخرجون منها وقد امتلكوا «المهارات الأساسية الكونية». وبموجب حسابات النموذج فإنه يتنبأ بأن ذلك سيؤدي إلى تحسين الدخل الإجمالي المحلي GDP بزيادة سنوية في حدود 16 في المائة للدول ذات الدخل المرتفع، وقد استخدمت الدراسة لحساباتها في بناء هذا النموذج التنبوئي بيانات متوافرة لـ76 دولة كان لتحسين السياسات التعليمية فيها أثر على نموها الاقتصادي، ولا شك أن النموذج استنتج أن تغيير السياسات (أو الأنظمة) التعليمية كان هو العامل المشترك المؤثر عبر هذه الدول (وليس مبادرات التطوير والابتكار التعليمي كما يتجه إليه كثيرون اليوم.) ويشير كثير من كتاب اقتصاديات التعليم الدولي اليوم أن المهارات الجديدة هي المكون الأساس لمجتمع المعرفة والذي سيكون الدينمو الأساسية لاقتصاد المعرفة، وقد صاغ بعضهم تطرف هذا الاقتصاد في أنه قد يهدد مستقبلا المهن القيادية السائدة حاليا كالمحاماة والهندسة وربما الطب أيضا.
أشارت معلومات دراسة ميكرواقتصادية شملت 42 دولة إلى أن كل سنة زيادة في التعليم تثمر في زياد معدل دخل الفرد بمعدل 9.7 في المائة كما أن ذلك يؤدي إلى زيادة في الدخل المحلي الإجمالي GDP بمقدار يقارب نصف في المائة (0.44 في المائة) وهو يعكس تحسنًا في معدل الاستثمار بمقدار يتراوح بين 7 إلى 10 في المائة وبطبيعة الحال فإن هذه الدراسات تقوم على افتراضات أن التعليم يتوافر للجميع وأنه تعليم يحقق الحد الأدنى من الجودة النوعية وليس تعليمًا شكليًا كحال كثير من الدول التي تعاني الأمراض الإدارية المزمنة.
كل هذه المؤشرات، ويدعمها الحس العام والتفكير التأملي الاستنباطي، تؤكد أن النظام التعليمي الذي يوفر التعليم للجميع (كتعليمنا مثلا) ولا يشكو من نقص انتشار الخدمة أو بنيتها الأساسية كما تشكو منه كثير من دول العالم، كما أنه يملك المقومات المادية والميزانيات التشغيلية الأساسية بل والموارد الممكنة للتطوير والتحسين فإن مثل هذا النظام لا يفصله عن تحصيل مثل هذه المؤشرات المميزة التي تجعل منه رافدًا مهمًا للاقتصاد الوطني سوى عاملين في متناول اليد، الأول هو تحسين الجودة النوعية للمناهج والتدريس وروافدهما المختلفة ولا يكون هذا إلا بتعديل السياسات والأنظمة (وهو ما أشارت إليه الدراسة الأوروبية)، علمًا بأن الإنفاق (سواء في كمّه أو في توزيعه) يكون من ضمن السياسات في هذا السياق، وفي تحليلي للموقف المحلي فإن المشكلة هنا هي مشكلة قيادية لا أكثر، أما العامل الثاني فهو بيئة توظيف «المهارات الأساسية الكونية» والتي يستشرف لها أن تكون هي محرك ميدان التنافسية الدولية مستقبلاً كما في إشارتنا إلى تغير معادلات المهن القيادية من المحاماة والهندسة إلى مهن جديدة مختلفة كليًا، وعندما نقول بيئة فهذا لا يعني مجرد إحداث وظائف فلن يكون هذا دور الحكومات، وإنما تهيئة البيئة القانونية والتكنولوجية والاجتماعية لمثل هذه المهن أو للكيانات التي تحتويها (شركات، مجموعات، منظمات افتراضية، أو أي كيان)، ولكي تتمكن الحكومات التي تطمح إلى ذلك وهي لما تفلح بعد في البيئة التقليدية فمن المنطقي أن تبادر فورًا بتهيئة ذاتها في البيئة التقليدية والتي تتحمل تبعات التغيير. وفي تقديري فإن هذه العامل تفرق دمه بين عدة وزارات في بيئتنا الإدارية المركزية مما يجعل تشخيصه معقدًا جدًا ولذلك فمن الضروري أن يتصدى له كيان واحد مثل المجلس الاقتصادي الأعلى ولذلك أنشئ، بيد أن المجلس سيعاني إذا لم يحرر القوانين والنظم من ربقة التداخلات والتقاطعات التي فرضها التراكم التاريخي لتنازع السلطات، فما لم يفطن لذلك ويعيد صياغة هذه البيئة فإنه سيراوح مكانه في موضة «المبادرات» التي يكون زمنها (بلغة الرياضيات الحديثة) يساوي أو أقل من زمن متابعة من أنشأنها، وبهذه الإشارات ينتهي أيضا زمن هذه السلسلة التي تناولت علاقة التعليم بالتنمية الاقتصادية لأتحدث معكم الأسبوع المقبل عن موضوع الساعة الساخن: حصص النشاط، فابقوا نشطين حتى ذلك الحين.