د. فوزية البكر
تقذف الجامعات السعودية سواء في مرحلتها الجامعية أو العليا أو خريجي الدبلومات بأكثر من مائتي ألف خريج سنويًا إلى سوق العمل بتخصصات تغلب عليها كما نعرف جميعا التخصصات الإنسانية. وتتداخل تعقيدات ثقافية واجتماعية لتحديد هيكلية هؤلاء الخريجين ونوعية تخصصاتهم حيث تمثل الإناث الغالبية من هؤلاء الخريجين العاجزين عن إيجاد وظيفة تقيهم شر الفاقة بسبب ما يحيط بوضع المرأة حتى الآن من تحفظات وخاصة في البيئات الفقيرة التي تحتاج المرأة فيها أكثر من غيرها إلى العمل بحيث أشارت آخر الدراسات إلى أن نسبة البطالة بين الإناث السعوديات من الخريجات الجامعيات بلغت أكثر من 63 %. كما يهيمن على الخريجين تخصصات كثيرة شرعية وأدبية بحتة يصعب معها استيعابهم في سوق غائمة نوعا ما وتعتمد على مهارات لا توفرها أغلب الجامعات التي تخرجهم والتي وجدت وما زالت لعوامل ضغط اجتماعية وثقافية لا علاقة بديناميكة سوق العمل بها بحيث بلغت البطالة بين الذكور الخريجين لهذا العام في مختلف التخصصات 36 %.
المشكلة لا تقف عند هذا الحد بل هي تمتد إلى معضلة أكبر كما تشير لها الإحصاءات وهي أن عدد المقيدين في التعليم الجامعي الآن وبكل تخصصاته يبلغ نحو 1.4 مليون طالب وطالبة أكثر من نصفهم يدرس تخصصات شرعية وأدبية وتربوية لن يستوعبها سوق العمل وهم الذين سيتخرجون تباعًا على مدى سبع سنوات ولا يمكن الآن التعديل على تخصصاتهم التي يدرسونها فماذا عسانا فاعلون مع أكثر من مليون شاب وشابة ينتظرون الشهادة الجامعية كطريق أولي لإيجاد وظيفة وبناء عائلة مستقرة مثل كل شباب العالم في بيئة عمل لن تستوعب مهاراتهم التي ومرة أخرى لا علاقة بسوق العمل بها؟
يحب أن نكون واقعيين جدا ونتذكر أن كل شاب وشابة تخرجوا هم مسؤولية اجتماعية يجب علينا كمجتمع أن نتحملها وألا نهرب بحلول فردية تطال أبناء الأغنياء وأصحاب العلاقات فيتمكنون بشكل أو بآخر من (تدبير) أبنائهم هنا وهناك وينتهي الأرق الفردي لديهم لكن الغيمة الاجتماعية الحقيقية والكبيرة تظل هناك: تحلق فوق رؤوسنا جميعا وكلنا نسأل متى ستمطر وما نوع المطر القادم؟ هل هو إرهاب أم مخدرات أم قلاقل اجتماعية وسياسية.. إلخ مما تواجهه الأمم جميعًا حين تغلق الطرق في وجه شبابها الأقل حظا والأكثر فقرًا كما نرى اليوم في كل أصقاع العالم الثالث.
مأساة شبابنا اليوم ليست فقط في أنهم لا يجدون وظائف بل إن التغير الهائل الذي يجري في سوق الوظائف المطلوبة يفوق قدرتهم وقدرة المؤسسات التعليمية على تصورها. هناك تغيرات هيكلية ستطال نوع المهارات المطلوبة في سوق العمل خلال السنوات العشر القادمة فمثلا سيفقد النفط ومشتقاته أهميته خلال سنوات قليلة قادمة فالسيارة الكهربائية في كل مكان والاعتماد على مصادر صديقة للبيئة لتوليد الطاقة سيجعل الكثير من الوظائف لا معنى لها. خذ مثلا آخر، هل اضطررت لشراء خارطة ورقية عندما تسافر في السنوات الثلاث الماضية؟ طبعا لا. السبب: خرائط جوجل الإلكترونية (وظيفة طباعة الخرائط وتحديثها انتهت). هل تحتاج الشركات الآن إلى أماكن ومكاتب فعلية لتقديم خدماتها؟ ليس صحيحا. يمكنك بناء شركة واستئجار مقار (ضيافة) كالأوتيلات مجهزة بسكرتارية وأجهزة بحيث تكون قيمة الشركة ليس في ممتلكاتها المادية بل فيما تملكه من حزم معلومات إلكترونية وفي دراسة نشرتها هارفرد بزنسس ريفو ونشرت عام 2011 وجدت أن شركة أي بي أم استطاعت أن توفر حوالي 1.4 مليار دولار في كلفة العقارات من خلال التحول إلى الفندقة وأقفال المكاتب غير المستعملة والانتقال إلى مكاتب جماعية الخدمة لتقليل التكلفة وهكذا ستتلاشي تدريجا آلاف المهن الموجودة حاليا والتي ما زلنا تقليديا نصر على تخريج طلابنا فيها بل إن وضع خريجينا هو في الحقيقة أسوأ من ذلك حيث إن ما نخرجه اليوم لا يناسب حتى ما هو تقليدي ومتعارف عليه في سوق العمل فكيف سيكون الحال إذن خلال العشر سنوات القادمة مع دخولنا لعصر الثورة المعلوماتية والوظيفية التي يتنبأ بها علماء دراسات المستقبل وما الذي سيواجهه شبابنا الملئ بالطاقة والرغبة في الحياة؟ أسئلة موجعة علينا مواجهتها قبل أن تمطر علينا السحابة.
اللهم احفظ هذا البلد أمنا مستقرا.