محمدالمهنا أبا الخيل
ذكر في حديث طويل أن عمر بن الخطاب حينما كان خليفة المسلمين اختلف مع عمار بن ياسر حول حكم التيمم للطهارة من الجنب، فذكر ياسر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وأجابه عن ذلك، فقال له عمر: «اتق الله يا عمار»، فقال عمار «إن شئت لم أحدث به» فقال عمر: «بل نوليك ما توليت»، في هذا الحديث عبر كثيرة، أهمها أن عمر بن الخطاب وهو من عرف بغزارة فقهه وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم وكونه خليفة المسلمين حينها وما له من سلطة، لم يحرم المسلمين من خيار رأي آخر فأجاز لعمار بن ياسر أن يحدث الناس بما يعرف وإن كان يختلف معه في ذلك، كان عمر رضي الله عنه يعلم أن في الإسلام سعة وخيارات وما أتى به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو الإسلام بإطاره الواسع والتفاصيل في ذلك هي خيارات للمسلمين، كل يقوم بما تطمئن له نفسه عندما يحتاج إلى تفصيل لم يرد به نص أو توجيه مباشر من النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا كان الصحابة رضوان الله عليهم قليلي السؤال بين بعضهم، بل إنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن كثرة السؤال والاستفتاء لغير حاجة فقال: «دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» وهكذا انتشر الإسلام بسرعة بين الناس لسهولة أمره ووضوح عقيدته وبساطة منهجه، ووجد المسلمون الجدد في سعة الإسلام ما لم يعتادوا فيما سبق من دياناتهم، فبات البعض منهم يجتهد في التساؤل ويستفتي من يعتقد بفضل قربهم من منبع الرسالة، سواءً كانوا من الصحابة أو التابعين، وهكذا بدأ الإسلام يتفصل وتتعدد فيه الأقوال، حتى بات مللا وفرقًا ومذاهب.
تعدد الأقوال في التفاصيل أصبح سائدًا على الأصل، وكما يقال في علوم الشريعة «الخاص مقيد للعام» أو كما يقال في المنطق «لنص المفسر سائد على النص الأصلي في الدلالة»، فقد بات معظم المسلمين في حيرة هل يتبعون (تعاليم الدين) التي باتت متشعبة وكثيرة التفاصيل أم يتبعون (الفقيه في الدين)، وحيث إن اتباع الفقيه أسهل وأوفر للوقت والجهد، فمعظم الناس صاحب صنعة أو تجارة يعتاش بها، أصبح المسلمون اتباعًا لرجال لهم أقوال واجتهادات وتفاسير وفتاوى، وهكذا ومع مرور الزمن أصبح للرجال رجال يتبعونهم ويقولون قولهم حتى تشكلت من ذلك الطوائف والمذاهب، بعض تلك في طائفة أخرى والكل منهم يدعي بأنه على النهج الإسلامي الصحيح، ومع ذلك هناك طوائف امتزجت بمعتقدات غريبة عن الإسلام ولكنها ما زالت تدعي بأنها متمسكة بروح الإسلام.
منذ فترة وأنا أتساءل، هل لو بقي الإسلام على أصله الأول من دون اجتهادات المفصلين والمفسرين وبدون روايات الحديث والسيرة النبوية، لو بقي الإسلام الذي اعتقد به البدوي في الصحراء والراهب في الصومعة من أول عرض بسيط، دون تفاصيل تتخم الكتب والعقول، هل كان سينتشر أكثر؟ وهل كان سيكون أكثر توحيدًا للمسلمين؟ وهل سيكون أكثر حماية لعقيدة التوحيد؟ لم أجد جوابًا لهذه الأسئلة لأنها غير منطقية، فطبيعة بناء عقول البشر جبلت على البحث عن التفاصيل، وهذا سبب بناء المعرفة البشرية، فحياة الإنسان هي سلسلة من التحديات والتساؤلات التي تدفع عقله للعمل وإيجاد أجوبة وحلول لتلك التحديات، والامتثال لتعاليم الدين لا شك يمثل أهم تلك التحديات. والاختلاف في الامتثال لتعاليم الدين يخلق تحديات جديدة بعضها يهدد حياة وسعادة فئة من الناس.
من تساؤلاتي حول التفرعات والتحورات التي تعتري الأديان بصورة عامة التي تبتعد ببعضها عن الأصل المؤسس تبين لي بالبحث أن معظم خلافات الطوائف والمذاهب هي في التفاصيل أو أن بعض التفاصيل اتحدت في عقل فقيه ما، فشكلت مرجعًا ذهنيًا أصبح بحد ذاته بعض من المعتقد المؤسس، وهكذا يصبح هناك حاجة لإيجاد مرجعية تبريرية لربط الأصل المؤسس بما حدث في التحور، وقد يكون ذلك الربط في صورة روايات ونصوص وتفسيرات وأحيانًا اجتهادات. وهذا ما يجعل مذهبًا ما عرضة للنقد والتشكيك وأحيانًا العدائية من المذاهب المنافسة الأخرى.
الإسلام ليس استثناء في تعرضه لكثير من التفرع والتحور، فكل الأديان القديمة السماوية منها والأرضية تعرضت للتحور والتفرع وكثيرًا ما انقسمت لأديان أخرى، وكل ذلك بفعل إقحام التفاصيل وفرض تفسيرها للعقيدة الأساس، ومع أن ذلك أمر مسلم به كحقيقة لازمة لحاجة الإنسان للتفصيل، إلا أن كون الاختلاف الذي ينشأ عن التفرع والتحور في الأديان يدعو إلى لعداوة والاقتتال وبحجة سيادة كلمة الله على ما سواها، هذه الحجة هي حجة كل الأديان وخصوصًا الأديان السماوية في حربها بعضها لبعض.