عبدالوهاب الفايز
ربما نقول لو إن بعض أصحاب الثراء يمارسون عرض مظاهر الثراء في إطار خاص بعيدًا عن إبراز هوياتهم الوطنية، لقلنا هذا حقهم، ولن نتدخل في خصوصياتهم، ولكان الأمر بردا وسلاما علينا وعليهم.
ولكن أن يتحول السلوك العام المجاهر إلى حالة مرضية لإبراز مظاهر الثراء عبر عرض السيارات الفارهة غالية الأثمان أمام فنادق وأسواق العواصم الأوربية، و(بلوحاتها الوطنية الخليجية)، فهذا ربما هذا يعطينا الحق أن ننزعج من هذه السلوكيات لأنها تجاوزت الخصوصية إلى الفضاء المفتوح الذي يجعلنا جميعا نقع في إطار الصورة النمطية السلبية التي يرسمها العالم عنا!
من الذين يعجبهم عرض مادياتهم وشكلياتهم هم المراهقون من (بعض) الجيل الجديد الذي هبطت عليه الثروة فجأة دون السعي والتعب على توليدها وتنميتها، هؤلاء ربما نعذرهم لأن الثراء المفاجئ عادة يصحبه سوئ التصرف، لأن الخبرة غير موجودة، ولأن طبيعة النفس الإنسانية تتوق إلى التوسع وعرض الحال بدون حسابات التكاليف، فما جاء بدون تعب يذهب بدون عناء التفكير والتدبر والحكمة، هؤلاء ربما نعذرهم ونتعاطف معهم لأن: حبل الإسراف قصير!
ولكن ماذا عن المتفاخرين بالثراء من أبناء وأحفاد الجيل العصامي الذين حفروا الأرض وسافرا وتغربوا وناموا الليالي طاوين لكي فقط يكسبوا لقمة عيشهم. هؤلاء لم يخططوا لبناء شركات أو إمبراطوريات، إنما كان همهم أن يعيشوا ويجدوا ما يأكلونه وما يسترهم، هؤلاء المبذرون الجدد تأسف لحالهم لأن يخرجوا علينا بغير تلك الصورة الرائعة لآبائهم وأجدادهم، وهي الصورة التي نستذكرها دائما ونتطلع لاستخدامها في تربية الجيل الجديد لكي يروا النموذج الحي لمعنى توليد الثروة وبناء النجاح الذي يستمد طاقته وروحه من العمل الجاد الدؤوب، ومن الأخلاقيات الراقية في التعامل مع بيئة التجارة.
أُولئك الجيل العصامي لم تكن سيرتهم في تجارتهم مصدرا للتعلم وحسب، بل حياتهم الخاصة فيها صور مضيئة، فالكثير من العصاميين الأثرياء في الخليج عاشوا حياتهم كالبسطاء، وعندما تتبع سيرة حياتهم تجد أن بعضهم عاش حياة الزهد بعينها، وبذلوا جزءا من ثرواتهم في أعمال الخير، وأقاموا الأوقاف، وفتحوا البيوت وأطعموا الجوعى وعلموا الفقراء، جعلوا ثرواتهم سبيلا لكي يطلبوا ما عند الله، عبر السهر على حاجات عياله، (الخلقُ كُلُّهم عِيالُ الله عزَّ وجلَّ، فأَحَبُّ خلقِه إليه أنفعُهم لعِيالِه).
ذلك الجيل العصامي، سواء منهم من ذهب إلى ربه أو ممن هم بيننا، لم يعرفوا مثل هذا الاستعراض بالثراء، بل يرونه عيبا وانتقاصا في أخلاق وأحلام الرجال. كيف ستكون حالهم حينما يَرَوْن هذا السلوك الذي يمارسه أحفادهم، أية مرارة وحسرة سوف تدركهم! هذا الذي يجعلنا نتألم حينما نرى الثروات تبدد على عرض الدنيا، رغم الكفاح الذي صاحبها، ولكن هذه سنة الحياة، (الأول تاعب والتالي لاعب!)
نحن نتألم لأن ممارسة هذه السلوكيات توجعنا لأنها تقدم الجانب المثير البراق الذي يستهوي الباحثون عن ترويج الغرائب والطرائف والعجائب، وهذه هي التي تستهوي نجوم ووسائل نقل حياة المشاهير والمغارير. لذا صورتنا سوف تظل تتغذى بالمظاهر السلبية، والاستعراض بالثراء مؤشر سلبي لدى الشعوب المتقدمة التي تصنع نجاحها وتفوقها من جدها وتعبها وكفاحها في الحياة، إنها شعوب (تنتج الثروة) وتستهلكها بما يكفي مقومات الحياة الكريمة.
مثل هذه السلوكيات الشاذة المعزولة هي التي يراها العالم كصورة تمثلنا، وإعلامهم بكل وسائله لن يهتم بنجاحات وتفوق الكثير منا في مجالات عديدة، مثل تفوق أبناء وبنات الفئات الميسورة التي برزت نتيجة جدها واجتهادها وتعبها، إنهم صورة جديدة مكررة من أجدادهم وآبائهم، صورة نعتز بها جميعا. وأيضا لن يهتم إعلامهم بالجانب الآخر لحياة أبناء وأحفاد الأثرياء الذين يعيشون حياة البسطاء، مثل أجدادهم، ويسهرون الليالي استعدادا للاختبارات في المدارس والجامعات، وينفقون بحدود ما تسمح لهم حاجتهم للحياة الكريمة بدون بذخ وإسراف، ويركبون كما يركب الناس ويلبسون مما يلبسون، ليس بخلا وقترا، بل سلوكيات الإنسان النبيل الواثق بنفسه، والذي يضع الأخلاقيات قبل الماديات.. عرض الدنيا!