د.فوزية أبو خالد
ليس مقدمة أولى
هذا عنوان كتاب السيرة البطولية لطبيب جراحة الأعصاب د. بول كالانيثي الذي صدر بتتمة غير نهائية وبخاتمة كتبتها زوجته د. لوسي كالانيثي بنفس خامة حبره وبنفس ريشة مبضعه الطبي، والكتاب الصادر عام 2016 و 2017 من فينتاج/ بنجوين صار في أسابيع من أعلى الكتب مبيعاً عالمياً.
غير أنّ العنوان «حين يصبح النفس هواءً» على العكس تماماً لما قد يفهم منه أو يوحي به مسمّى الزفرة الأخيرة في حياة الناس.
فحقيقة السيرة أنها تعبير نادر دقيق ندي لين عنيد شرس عن حالة الأنفاس الأخيرة، حين تصبح مصدراً لهواء يغسل المخلوقات من كل حالات الاختناق الجسدي والنفسي والروحي والكوني، على مدار الساعة وعبر قارات الكرة الأرضية , وكأنّ الأنفاس الأخيرة عابرة لسطوة الزمان والمكان بما هو أسرع من الضوء وأطول من عمر البشر بتلك القوة الخارقة التي اسمها الحياة.
بعد أن قمت بقراءة كتاب عندما يصبح النفس - بفتح الفاء - هواءً للمرة الثالثة، حرصت على إرسال غلاف الكتاب لعدد من الصديقات والأصدقاء على الواتساب مع كلمة تقول «كتاب علينا جميعاً أن نعيد قراءته»، ولم يكن هذا المقترح لأنني افترضت أنّ الجميع قد قام بقراءته من قبل وعليهم قراءته مرة أخرى، وليس أيضاً لأنني على يقين أنّ قراءة واحدة لمثل هذا الكتاب لا تكفي، ولكن لأنني أردت أنا نفسي قراءته لما بعد المرة الثالثة، وكأنني سأقرؤه مرات ومرات كلما تعددت قراءة الكتاب. وقد بلغ ما أصابني به هذا الكتاب من دهشة وحرقة ونشوة وما أحرجني به من أسئلة، أنني قررت السطو نهائياً على النسخة التي استعرتها من ابني بعد أن بالكاد خلصته من بين يديه في قراءاته المتكررة ووقفاته المتأملة المطولة للكثير من صفحاته , «على رغم انشغاله الشديد», بل إنني وعدت زوجة ابني بشراء نسخة جديدة لها منه إزاء رفضي الاستجابة لإلحاحها باستعادته لقراءته ورقياً، بعد أن شدهها من مجرد قراءة إلكترونية لأجزائه الأولى.
ومع أنني أستطيع الادعاء بأنني امرأة شديدة التعلق بالقراءة، إلاّ أنه قليل ما أتعلق بكتاب غير شعري مثل هذا التعلق الولهي. على أني من المؤكد أرتكب خطأ نقدياً لو أخرجت هذا الكتاب باعتباره سيرة ذاتية من دائرة الشعر. فالكتاب بالإضافة لكونه سفراً فلسفياً عميقاً، فهو أيضاً قصيدة غزل طويلة في التعبير عن عشق مبرح اسمه الحياة. وهو في نفس الوقت قصيدة رثاء نبيلة تذكِّر بقصيدة مالك بن الريب وقصيدة غازي القصيبي الأخيرة في ضراوة وأريحية استقبال الموت بصدر عار إلاّ من حب الحياة.
ولم يكن للشاب الذي ابتدأ حياته الجامعية طالب أدب إنجليزي بجامعة ستانفورد، ثم بعد تخرجه صار طالباً للفلسفة بجامعة كمبردج، قبل أن يصير طبيباً جراحاً، إلا أن يكون كتاب سيرته شقياً بالأسئلة مفعماً بالشعر والفلسفة والموسيقى بل بمسرحة الشعر , باوند , اليوت , يوجين يونسكو, وليم كارلوس وليمز, ادغار آلان بو والت ويتمان ... ما يعكس روح شاعرية فلسفية قلقة في تفاعل رمزي فريد مع مهنة الطب وهواية الجراحة.
........يتبع