إبراهيم عبدالله العمار
عام 1815م بينما معركة واترلو في أوجِها، تلك المعركة الفاصلة بين الفرنسيين والبريطانيين والتي هُزم وأُسِر فيها نابليون وخُتِمت حياته بالوفاة بمنفاه، كان قائد الجيش البريطاني الدوق ويلينغتون يراقب الجيش الفرنسي، وأمعن النظر إلى شيء جذب انتباهه: طبيب.
الأطباء كانوا منظراً مألوفاً في المعارك ليساعدوا الجرحى، لكن هذا اختلف عن غيره .. إنه دومينيك جان لاري، الطبيب والجراح الخاص بنابليون نفسه. الدوق ويلينغتون رأى الطبيب لاري يعمل باحتراف وينقل الجرحى بسرعة على عربة تجرها الخيل للخلف ليداويهم بعيداً عن طحن المعارك، ولما رأى بقية القادة ممن هم تحت رئاسته نظره الشديد إلى الطبيب، همّوا أن يأمروا جنودهم بتوجيه نيرانهم له، غير أنّ القائد ويلينغتون نهاهم عن ذلك، إعجاباً بحسن أدائه، بل إنه رفع له قبعته العسكرية احتراماً!
إنّ السرعة مهمة في الطب، ولطالما عرف الأطباء ذلك، منهم الطبيب المذكور لاري، والذي لم يستطع عمل الكثير للجرحى أول أيامه كطبيب حرب، فكان يرى المعارك تتَّقِد ثم تخمد، وفقط بفترات الهدوء تلك كان الجرحى يُنقلون للمستشفيات الميدانية، وهذا فيه تأخير كبير، لذلك كثيراً ما هلكوا، وإذا وصل التأخير بعد الإصابة إلى 24 ساعة لاحظ لاري أنّ الوفاة هي الأغلب، فانجلى ذهنه عن فكرة رائدة وهي أن يُلحِق بجنود المقدمة فرقاً طبية مزوّدة بعربات تجرها الخيل بسرعة فور إصابتهم ليعالَجوا، وزاد نظاماً مبسّطاً لتصنيف أولويات الإصابات، وهذا غيّر الساحة تماماً، فصار الآن أصحاب الجروح التي تَقتل عادة ينجون، وطَبّقت بقية جيوش فرنسا هذا الإسعاف الطائر (كما كانوا يسمونه بسبب سرعة الخيل)، غير أنّ الإسعاف الطائر فعلاً ظهر في الحرب العالمية الثانية وهو الإخلاء المروحي، وتطور هذا حتى صارت مروحيات الإخلاء منظراً مألوفاً في الحروب بعدها وكثرة الجرحى، واستفادت المستشفيات المدنية من المستشفيات العسكرية، فبدأت تطبق الإخلاء بالمروحية للحالات الطارئة كحوادث السيارات وإطلاق النار، وهنا ظهر هدف جديد: لزيادة فرص النجاة لأقصى حد ممكن فيجب معالجة المصاب خلال 60 دقيقة، وهو ما سُمِّى «الساعة الذهبية»، وأوصل هذا رسالة واضحة: تأخير علاج المجروحين والمصابين لم يَعُد مقبولاً زمن التطور التقني، وما انقضى القرن العشرون حتى صنع أسلوب لاري ثورة طبية لا زلنا نرى آثارها اليوم.